الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر الاستكبار : أن يجعل الإنسان نفسه كبيرة فوق ما هي ؛ غرورا وإعجابا ، فيحملها بذلك على غمط الحق ، سواء كان لله أو لخلقه وعلى احتقار الناس ، ومعنى الجملة : ومن يترفع عن عبادته أنفة ويتبرأ منها ، ويجعل نفسه كبيرة فيرى أنه لا يليق بها التلبس بها فسيحشرهم إليه جميعا أي فسيحشر هؤلاء المستنكفين والمستكبرين للجزاء ، مجتمعين مع غير المستكبرين والمستنكفين ، الذين ذكر بعضهم في أول الآية ، فإن الله يحشر الخلق كلهم ، في صعيد واحد ، كما ورد ، ثم يحاسبهم ويجزيهم عملهم ، كما يجزي غيرهم على النحو المبين في قوله :

                          فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله أي يعطيهم أجورهم على إيمانهم ، وعملهم الصالح وافية تامة ، كما يستحقون بحسب سنته - تعالى - في ترتيب الجزاء على تأثير الإيمان والعمل في النفس ، ويزيدهم عليه من محض فضله وجوده من عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء . وتقدم الكلام في المضاعفة في تفسير سورة البقرة .

                          وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما أي فيعذبهم عذابا مؤلما ، كما يستحقون بحسب سنته - تعالى - أيضا ، ولكن لا يزيدهم على ما يستحقون شيئا ; لأن الرحمة سبقت الغضب ، فهو - تعالى - يجازي المحسن بالعدل والفضل ، ويجازي المسيء بالعدل فقط ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا أي ولا يجدون لهم من غير الله - تعالى - وليا يتولى شيئا من أمرهم يوم الجزاء والحساب ، ولا نصيرا ينصرهم ، فيدفع عنهم العذاب يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ( 82 : 19 ) .

                          ومن مباحث اللفظ والإعراب في الآية : إفراد فعل يستنكف وما عطف عليه مراعاة للفظ من وجمع فعل فسيحشرهم مراعاة لمعناها ; فإنها من صيغ العموم ، ومنها : مسألة مطابقة التفصيل في هذه الآية للمفصل المذكور بصيغة العموم في آخر الآية التي قبلها .

                          قال بعضهم : إن التفصيل للمجازاة لا للمحشورين المجزيين ، فلا حاجة إلى المطابقة ، وذلك أن الجزاء لازم للحشر ; فبينه عقبه ، واختار هذا البيضاوي ، ورده السعد ، وقال الزمخشري : هو مثل قولك جمع الإمام الخوارج ، فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ، أي : أعطاه ما يركبه ، ومن خرج نكل به . وصحة ذلك لوجهين ، أحدهما : أن يحذف أحد الفريقين لدلالة الآخر عليه ، ولأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني ، كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عقيب هذا : فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به .

                          [ ص: 81 ] والثاني : هو أن الإحسان إلى غيرهم مما يعمهم ، فكان داخلا في جملة التنكيل بهم ، فكأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين ، وبما يصيبه من عذاب الله . اهـ .

                          أقول : وقد يدل على حشر المستنكفين مع غيرهم قوله تعالى : جميعا كما أشرنا إليه ، وثم وجه آخر ، وهو أن القرآن كثيرا ما يذكر العاملين بصيغة مبتدأ ، يكون خبره محذوفا لدلالة الكلام أو القرينة عليه ، ولا سيما إذا كان شرطا كما هنا ، وكان جزاؤه كلاما عاما يشير إلى الخبر إشارة ضمنية ; كقوله تعالى : ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ( 8 : 49 ) وقوله : ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ( 57 : 24 ) ولا يبعد أن يكون ما هنا من هذا القبيل ، والمراد : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر ، فسيجزيه إذ يحشر الناس كلهم للجزاء ، ثم فصل هذا الجزاء المشار إليه بذكر لازمه ، والله أعلم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية