الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا ( 15 )

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إنا أرسلناك شاهدا أي : على أمتك بتبليغ الرسالة إليهم ومبشرا بالجنة للمطيعين ونذيرا لأهل المعصية .

                                                                                                                                                                                                                                      لتؤمنوا بالله ورسوله قرأ الجمهور ( لتؤمنوا ) بالفوقية . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بالتحتية ، فعلى القراءة الأولى الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولأمته ، وعلى القراءة الثانية المراد : المبشرين والمنذرين ، وانتصاب ( شاهدا ) ، ( ومبشرا ) ، ( ونذيرا ) على الحال المقدرة ، ( وتعزروه ) ، ( وتوقروه ) ، ( وتسبحوه ) الخلاف بين القراء في هذه الثلاثة الأفعال كالخلاف في ( لتؤمنوا ) كما سلف ، ومعنى ( تعزروه ) : تعظموه ، وتفخموه ، قاله الحسن ، والكلبي ، والتعزير : التعظيم والتوقير .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال قتادة : تنصروه وتمنعوا منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال عكرمة : تقاتلوا معه بالسيف ، ومعنى ( توقروه ) : تعظموه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال السدي : تسودوه ، قيل : والضميران في الفعلين للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهنا وقف تام ، ثم يبتدئ ( وتسبحوه ) أي تسبحوا الله عز وجل بكرة وأصيلا أي : غدوة وعشية . وقيل : الضمائر كلها في الأفعال الثلاثة لله عز وجل ، فيكون معنى ( تعزروه ) ، ( وتوقروه ) : تثبتون له التوحيد وتنفون عنه الشركاء ، وقيل : تنصروا دينه وتجاهدوا مع رسوله .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي التسبيح وجهان ، أحدهما : التنزيه له سبحانه من كل قبيح ، والثاني : الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                                      ( إن الذين يبايعونك ) يعني بيعة الرضوان بالحديبية ، فإنهم بايعوا تحت الشجرة على قتال قريش إنما يبايعون الله ، أخبر سبحانه أن هذه البيعة لرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - هي بيعة له كما قال : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ النساء : 80 ] وذلك لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة ، وجملة ( يد الله فوق أيديهم ) مستأنفة لتقرير ما قبلها على طريق التخييل في محل نصب على الحال ، والمعنى : أن عقد الميثاق مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كعقده مع الله سبحانه من غير تفاوت .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكلبي : المعنى : إن نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن كيسان : قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه أي : فمن نقض ما عقد من البيعة فإنما ينقض على نفسه ؛ لأن ضرر ذلك راجع إليه لا يجاوزه إلى غيره ومن أوفى بما عاهد عليه الله أي : ثبت على الوفاء بما عاهد الله عليه في البيعة لرسوله .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور ( عليه ) بكسر الهاء ، وقرأ حفص ، والزهري بضمها ( فسيؤتيه أجرا عظيما ) وهو الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور ( فسيؤتيه ) بالتحتية ، وقرأ نافع ، وقرأ كثير ، وابن عامر بالنون ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد ، وأبو حاتم ، واختار القراءة الثانية الفراء .

                                                                                                                                                                                                                                      سيقول لك المخلفون من الأعراب هم الذين خلفهم الله عن صحبة رسوله حين خرج عام الحديبية .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مجاهد ، وغيره : يعني أعراب غفار ، ومزينة ، وجهينة ، وأسلم ، وأشجع ، والدئل ، وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حين سافر إلى مكة عام الفتح بعد أن كان قد استنفرهم ليخرجوا معه ، والمخلف المتروك شغلتنا أموالنا وأهلونا أي : منعنا عن الخروج معك ما لنا من الأموال ، والنساء ، والذراري ، وليس لنا من يقوم بهم ويخلفنا عليهم ، فاستغفر لنا ليغفر الله لنا ما وقع منا من التخلف عنك بهذا السبب ، ولما كان طلب الاستغفار منهم ليس عن اعتقاد بل على طريقة الاستهزاء ، وكانت بواطنهم مخالفة لظواهرهم فضحهم الله سبحانه بقوله : ( يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ) ، وهذا هو صنيع المنافقين والجملة مستأنفة لبيان ما تنطوي [ ص: 1383 ] عليه بواطنهم ويجوز أن تكون بدلا من الجملة الأولى .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يجيب عنهم ، فقال : قل فمن يملك لكم من الله شيئا أي فمن يمنعكم مما أراده الله بكم من خير وشر ، ثم بين ذلك فقال : إن أراد بكم ضرا أي : إنزال ما يضركم من ضياع الأموال وهلاك الأهل .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور ( ضرا ) بفتح الضاد وهو مصدر ضررته ضرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ حمزة ، والكسائي ، بضمها وهو اسم ما يضر ، وقيل : هما لغتان ، أو أراد بكم نفعا أي نصرا وغنيمة ، وهذا رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يدفع عنهم الضر ويجلب لهم النفع ، ثم أضرب سبحانه عن ذلك وقال : بل كان الله بما تعملون خبيرا أي : إن تخلفكم ليس لما زعمتم ، بل كان الله خبيرا بجميع ما تعملونه من الأعمال التي من جملتها تخلفكم ، وقد علم أن تخلفكم لم يكن لذلك ، بل للشك والنفاق وما خطر لكم من الظنون الفاسدة الناشئة عن عدم الثقة بالله . ولهذا قال : بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وهذه الجملة مفسرة لقوله : بل كان الله بما تعملون خبيرا لما فيها من الإبهام : أي : بل ظننتم أن العدو يستأصل المؤمنين بالمرة فلا يرجع منهم أحد إلى أهله ، فلأجل ذلك تخلفتم ، لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة وزين ذلك في قلوبكم أي وزين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم فقبلتموه .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور ( وزين ) مبنيا للمفعول ، وقرئ مبنيا للفاعل ، وظننتم ظن السوء أن الله سبحانه لا ينصر رسوله ، وهذا الظن إما هو الظن الأول ، والتكرير للتأكيد والتوبيخ ، والمراد به ما هو أعم من الأول ، فيدخل الظن الأول تحته دخولا أوليا ، ( وكنتم قوما بورا ) أي : هلكى قال الزجاج ، : هالكين عند الله ، وكذا قال مجاهد . قال الجوهري : البور الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو عبيد ( قوما بورا ) : هلكى ، وهو جمع بائر ، مثل حائل وحول ، وقد بار فلان : أي هلك ، وأباره الله أهلكه .

                                                                                                                                                                                                                                      ( ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا ) ، هذا الكلام مستأنف من جهة الله سبحانه غير داخل تحت ما أمر الله سبحانه رسوله أن يقوله : أي ومن لم يؤمن بهما كما صنع هؤلاء المخلفون ، فجزاؤهم ما أعده الله من عذاب السعير .

                                                                                                                                                                                                                                      ولله ملك السماوات والأرض يتصرف فيه كيف يشاء لا يحتاج إلى أحد من خلقه ، وإنما تعبدهم بما تعبدهم ليثيب من أحسن ويعاقب من أساء ، ولهذا قال : يغفر لمن يشاء أن يغفر له ويعذب من يشاء أن يعذبه ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون [ الأنبياء : 23 ] وكان الله غفورا رحيما أي : كثير المغفرة والرحمة بليغها يخص بمغفرته ورحمته من يشاء من عباده .

                                                                                                                                                                                                                                      سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها المخلفون هؤلاء المذكورون سابقا ، والظرف متعلق بقوله ( سيقول ) ، والمعنى : سيقولون عند انطلاقكم : أيها المسلمون إلى مغانم ، يعني مغانم خيبر ( لتأخذوها ) لتحوزوها ذرونا نتبعكم أي اتركونا نتبعكم ونشهد معكم غزوة خيبر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل القصة أنه لما انصرف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن معه من المسلمين من الحديبية وعدهم الله فتح خيبر ، وخص بغنائمها من شهد الحديبية ، فلما انطلقوا إليها قال هؤلاء المخلفون : ( ذرونا نتبعكم ) ، فقال الله سبحانه : يريدون أن يبدلوا كلام الله أي يغيروا كلام الله ، والمراد بهذا الكلام الذي أرادوا أن يبدلوه هو مواعيد الله لأهل الحديبية خاصة بغنيمة خيبر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مقاتل : يعني أمر الله لرسوله أن لا يسير معه أحد منهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن زيد : هو قوله تعالى : فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا [ التوبة : 83 ] ، واعترض هذا ابن جرير ، وغيره بأن غزوة تبوك كانت بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة ، والأول أولى ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، ورجحه ابن جرير ، وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور ( كلام الله ) ، وقرأ حمزة ، والكسائي ( كلم الله ) قال الجوهري : الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير ، والكلم لا يكون أقل من ثلاث كلمات لأنه جمع كلمة مثل نبقة ونبق .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أمر سبحانه رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يمنعهم من الخروج معه فقال : قل لن تتبعونا هذا النفي هو في معنى النهي ، والمعنى : لا تتبعونا كذلكم قال الله من قبل أي : من قبل رجوعنا من الحديبية أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة ليس لغيرهم فيها نصيب ( فسيقولون ) يعني المنافقين عند سماع هذا القول ، وهو قوله ( لن تتبعونا ) ( بل تحسدوننا ) أي : بل ما يمنعكم من خروجنا معكم إلا الحسد لئلا نشارككم في الغنيمة ، وليس ذلك بقول الله كما تزعمون .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله : بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا أي لا يعلمون إلا علما قليلا ، وهو علمهم بأمر الدنيا ، وقيل : لا يفقهون من أمر الدين إلا فقها قليلا ، وهو ما يصنعونه نفاقا بظواهرهم دون بواطنهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : ( وتعزروه ) يعني : الإجلال ( وتوقروه ) يعني : التعظيم ، يعني محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة عنه في قوله : ( وتعزروه ) قال : تضربوا بين يديه بالسيف .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن عدي ، وابن مردويه ، والخطيب ، وابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله قال : لما أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هذه الآية ( وتعزروه ) قال لأصحابه : ما ذاك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : لتنصروه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ، وابن مردويه ، عن عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم ، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب ، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة ، فمن وفى وفى الله له ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الصحيحين من حديث جابر أنهم [ ص: 1384 ] كانوا في بيعة الرضوان خمس عشرة مائة وفيهما عنه : أنهم كانوا أربع عشرة مائة ، وفي البخاري من حديث قتادة ، عن سعيد بن المسيب أنه سأله كم كانوا في بيعة الرضوان ؟ قال : خمس عشرة مائة ، فقال له : إن جابرا قال كانوا أربع عشرة مائة ، قال : رحمه الله ، وهم هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية