الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإنما الصبر عن العلائق كلها مقدم على الصبر عن الخواطر .

قال الجنيد رحمه الله السير : من الدنيا إلى الآخرة سهل على المؤمن ، وهجران الخلق في حب الحق شديد والسير ، من النفس إلى الله تعالى صعب شديد ، والصبر مع الله أشد فذكر شدة الصبر عن شواغل القلب ثم شدة هجران الخلق .

وأشد العلائق على النفس علاقة الخلق ، وحب الجاه ، فإن لذة الرياسة والغلبة والاستعلاء والاستتباع أغلب اللذات في الدنيا على نفوس العقلاء ، وكيف لا تكون أغلب اللذات ومطلوبها صفة من صفات الله تعالى ، وهي الربوبية ، والربوبية محبوبة ومطلوبة بالطبع للقلب ، لما فيه من المناسبة لأمور الربوبية ، وعنه العبارة بقوله تعالى : قل الروح من أمر ربي . وليس القلب مذموما على حبه ذلك ، وإنما هو مذموم على غلط وقع له بسبب تغرير الشيطان اللعين المبعد عن عالم الأمر إذ حسده على كونه من عالم الأمر فأضله وأغواه وكيف يكون مذموما عليه وهو يطلب سعادة الآخرة فليس يطلب إلا بقاء لا فناء فيه ، وعزا لا ذل فيه ، وأمنا لا خوف فيه ، وغنى لا فقر فيه ، وكمالا لا نقصان فيه وهذه كلها من أوصاف الربوبية ، وليس مذموما على طلب ذلك بل حق كل عبد أن يطلب ملكا عظيما لا آخر له ، وطالب الملك طالب للعلو والعز والكمال لا محالة ، ولكن الملك ملكان ملك مشوب بأنواع الآلام وملحوق بسرعة الانصرام ولكنه عاجل وهو في الدنيا ، وملك مخلد دائم لا يشوبه كدر ولا ألم ولا يقطعه قاطع ولكنه آجل وقد خلق الإنسان عجولا راغبا في العاجلة فجاء الشيطان وتوسل إليه بواسطة العجلة التي في طبعه فاستغواه بالعاجلة ، وزين له الحاضرة ، وتوسل إليه بواسطة الحمق فوعده بالغرور في الآخرة ، ومناه مع ملك الدنيا ملك الآخرة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : والأحمق من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني فانخدع المخذول بغروره ، واشتغل بطلب عز الدنيا وملكها على قدر إمكانه ، ولم يتدل الموفق بحبل غروره إذ علم مداخل مكره فأعرض عن العاجلة ، فعبر عن المخذولين بقوله تعالى ، كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وقال تعالى : إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ، وقال تعالى : فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم .

ولما استطار مكر الشيطان في كافة الخلق أرسل الله الملائكة إلى الرسل وأوحوا إليهم ما تم على الخلق من إهلاك العدو ، وإغوائه فاشتغلوا بدعوة الخلق إلى الملك الحقيقي عن الملك المجازي الذي لا أصل له إن سلم ولا دوام له أصلا ، فنادوا فيهم يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .

فالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان وصحف موسى وإبراهيم وكل كتاب منزل ما أنزل إلا لدعوة الخلق إلى الملك الدائم المخلد والمراد منهم أن يكونوا ملوكا في الدنيا ، ملوكا في الآخرة ، أما ملك الدنيا فالزهد فيها ، والقناعة باليسير منها وأما ملك الآخرة فبالقرب من الله تعالى يدرك بقاء لا فناء فيه ، وعزا لا ذل فيه ، وقرة عين أخفيت في هذا العالم لا تعلمها نفس من النفوس .

والشيطان يدعوهم إلى ملك الدنيا لعلمه بأن ملك الآخرة يفوت به ، إذ الدنيا والآخرة ضرتان ولعلمه بأن الدنيا لا تسلم له أيضا ولو كانت تسلم له لكان يحسده أيضا ، ولكن ملك الدنيا لا يخلو عن المنازعات والمكدرات وطول الهموم في التدبيرات وكذا ، سائر أسباب الجاه ثم مهما تسلم وتتم الأسباب ينقضي العمر حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس . فضرب الله تعالى لها مثلا فقال تعالى : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح .

التالي السابق


(وإنما الصبر عن العلائق كلها مقدم على الصبر عن الخواطر) ، فإذا فرغ منها استقبله هذا الباب العظيم الهائل، فإن وجد شيخا كاملا فليعتصم به ولا يفارقه، وهو بعد هذا المنزل إما هالك أو مالك، لأنه يرى الخواطر تأتيه كأمواج البحر تبهر أبصار القلوب رؤيتها، فكيف التوسط في لجمها، ومن أجل هذه (قال الجنيد:) قدس سره (المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل) هين (على المؤمن، وهجران الخلق في حب الحق شديد، والمسير من النفس إلى الله تعالى صعب شديد، والصبر مع الله أشد) . هكذا رواه القشيري في "الرسالة" سماعا عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت الجنيد يقول... فذكره .

والمعنى أن المسير من الدنيا سهل، وإن كان فيه صعوبة ما من حيث فراق محبوبه، وذلك لكمال الجزاء، وهجران الخلق في طاعة الله شديد، لمخالفته هوى النفس من حظوظها، والمسير من النفس بعدم الالتفات لهواها إلى الله تعالى بالعمل المحض أمره شديد للمخالفة المذكورة، والصبر مع الله حتى لا يرجع الصابر إلى الالتفات لهواها أشد مما ذكر .

(فذكر شدة الصبر عن شواغل القلب ثم شدة هجران الخلق) فانظر، فما أغزر علمه، فإنه ليس في الطريق عائق رابع، أما العائق الأول الدنيا، والعائق الثاني إقبال الخلق على المريد، والعائق الثالث حوم الشياطين بين القلب وبين الملكوت، وليس له علاج إلا الاعتماد على الله، ثم الاعتصام بالشيخ المفيد، ثم الإقبال على معاني الذكر بكنه الهمة، فمن كان لله كان الله له، ثم تخفيفه العلائق ما استطاع، فإنه لا مطمع في الورع قبل الفكر، ولا في المحبة قبل المعرفة .

(وأشد العلائق على النفس علقة الخلق، وحب الجاه، فإن لذة الرياسة والغلبة والاستعلاء والاستتباع أغلب اللذات في الدنيا على نفوس العقلاء، وكيف لا يكون أعلى اللذات ومطلوبها صفة من صفات الله تعالى، وهي الربوبية، والربوبية محبوبة ومطلوبة بالطبع للقلب، لما فيه من المناسبة لأمور الربوبية، وعنه العبارة بقوله تعالى: قل الروح من أمر ربي . وليس القلب مذموما على حبه ذلك، وإنما هو مذموم على غلط وقع له بسبب تغرير الشيطان اللعين المبعد) من رحمة الله تعالى (عن عالم الأمر إذ حسده على كونه من عالم الأمر فأضله وأغواه) عن طريق الرشد (وكيف يكون [ ص: 39 ] مذموما عليه وهو يطلب سعادة الآخرة) وهو أعلى النعم الموهوبة وأشرفها، (ومن يطلب سعادة الآخرة ليس يطلب إلا بقاء لا فناء فيه، وعزا لا ذل فيه، وأمنا لا خوف فيه، وغنى لا فقر فيه، وكمالا لا نقصان فيه) أو قدرة لا عجز فيها، وعلما لا جهل فيه، وإليه الإشارة بقوله تعالى: وأما الذين سعدوا ففي الجنة ، الآية .

ولا يمكن الوصول لذلك إلا باكتساب الفضائل النفيسة واستعمالها، (وهذه كلها من أوصاف الربوبية، وليس مذموما على طلب ذلك بل حق كل عبد أن يطلب ملكا عظيما لا آخر له، وطالب الملك طالب للعز والعلو والكمال لا محالة، ولكن الملك ملكان ملك مشوب بأنواع الآلام) والأكدار، (وملحوق بسرعة الانصرام) أي: الانقطاع، (ولكنه عاجل وهو في الدنيا، وملك دائم لا يشوبه كدر ولا ألم) أي: لا يخالطه (ولا يقطعه قاطع ولكنه آجل) أي: متأخر، (وقد خلق الإنسان عجولا راغبا في العاجلة) ، كما في نص القرآن (فجاء الشيطان وتوصل إليه بواسطة العجلة التي في طبعه فاستغواه بالعاجلة، وزين له الحاضرة، وتوسل إليه بواسطة الحمق) ، وهو فساد جوهر العقل، (فوعده بالغرور في الآخرة، ومناه مع ملك الدنيا ملك الآخرة، كما قال صلى الله عليه وسلم: الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والأحمق) وفي رواية: والفاجر (من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله) الأماني، رواه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث شداد بن أوس، وقد تقدم .

(فانخدع المخذول بغروره، واشتغل بطلب عز الدنيا وملكها على قدر إمكانه، ولم يتدل الموفق بحبل غروره) ، ولم ينخدع، (إذ علم مداخل مكره) ، ومطاوي خدعه، (فأعرض عن العاجلة، فعبر عن المخذولين، وقيل) وفي نسخة: فعبر تعالى عن المخذولين وقال: ( كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ) أي: يدعونها، (وقال تعالى: إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ، وقال تعالى: فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم ) في آيات كثيرة تشير إلى أحوال المخذولين ممن آثر الدنيا على الآخرة .

(ولما استطار مكر الشيطان في كافي الخلق) وانتشر خدعه إياهم (أرسل الله الملائكة إلى الرسل) عليهم السلام، (وأوحى) ، وفي نسخة: فأوحوا (إليهم ما تم على الخلق من إهلاك العدو، وإغوائه) ، وإضلاله، (فاشتغلوا بدعوة الخلق إلى الملك الحقيقي عن الملك المجازي الذي لا أصل له إن سلم) ، ومن الكدورات (ولا دوام له أصلا، فنادوا فيهم) بما حكى الله تعالى عنهم في كتابه العزيز: ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله ) أي: في جهاد أعداء الله (اثاقلتم إلى الأرض) ، فامتنعتم من الخروج، ( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل فالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن وصحف موسى) عليه السلام، (وكل كتاب منزل ما أنزل إلا لدعوة الخلق إلى الملك الدائم المخلد) .

روى عبد بن حميد وابن مردويه وأبو نعيم وابن عساكر من حديث أبي ذر، قال: قلت يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال: مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، قلت: يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: أمثال كلها، قلت: فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبرا كلها، قلت: فهل أنزل الله عليك شيئا مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال: نعم قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى .

(والمراد منهم أن يكونوا ملوكا في الدنيا، ملوكا في الآخرة، أما ملك الدنيا فبالزهد فيها، والقناعة باليسير منها) بقدر ما يبلغه إلى الآخرة، [ ص: 40 ] (وأما ملك الآخرة فبالقرب من الله تعالى يدرك بقاء لا فناء فيه، وعزا لا ذل فيه، وقرة عين أخفيت في هذا العالم لا تعلمها نفس من النفوس) ، يشير إلى قوله تعالى: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون .

(والشيطان قد يدعوهم إلى ملك الدنيا لعلمه أن ملك الآخرة يفوت به، إذ الدنيا والآخرة ضرتان) أي: بمنزلتهما، إن أرضيت إحداهما سخطت الأخرى، وهكذا مثلهما علي رضي الله عنه، وتقدم في كتاب العلم. (ولعلمه بأن الدنيا لا تسلم له أيضا) لأنه يفارقها عن قرب (ولو كانت تسلم لكان يحسده أيضا، ولكن ملك الدنيا لا يخلو عن المنازعات والمكدرات وطول الهموم في التدبيرات، وكذلك سائر أسباب الجاه) والرياسات، (ثم مهما تسلم وتتم الأسباب) لما يوافق راحته وهواه (ينقضي العمر) ، وينتهي ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا ) أي: محصودا منكسرا (كأن لم تغن بالأمس. فضرب الله تعالى لها مثلا فقال: واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما ) أي: يابسا متكسرا (تذروه الرياح) ، وكان الله على كل شيء مقتدرا .




الخدمات العلمية