الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فصل

                        فإن قيل : فالبدع الإضافية هل يعتد بها عبادات حتى تكون من تلك الجهة متقربا بها إلى الله تعالى أم لا تكون كذلك ؟ فإن كان الأول ؛ فلا تأثير إذا لكونها بدعة ، ولا فائدة في ذكره ، إذ لا يخلو من أحد الأمرين : إما أن لا يعتبر بجهة الابتداع في العبادة المفروضة ، فتقع مشروعة يثاب عليها ، فتصير جهة الابتداع مغتفرة ، فلا على المبتدع فيها أن يبتدع ، وإما أن يعتبر بجهة الابتداع ؛ فقد صار للابتداع أثر في ترتب الثواب ، فلا يصح أن يكون منفيا عنه بإطلاق ، وهو خلاف ما تقرر من عموم الذم فيه ، وإن كان الثاني ؛ فقد اتحدت البدعة الإضافية مع الحقيقية بالتقسيم الذي انبنى عليه الباب الذي نحن في شرحه ، [ و ] ولا فائدة فيه .

                        فالجواب : أن حاصل البدعة الإضافية أنها لا تنحاز إلى جانب مخصوص في الجملة ، بل ينحاز بها الأصلان ـ أصل السنة وأصل البدعة ـ ، لكن من وجهين .

                        وإذا كان كذلك ؛ اقتضى النظر السابق للذهن أن يثاب العامل بها من جهة ما هو مشروع ، ويعاتب من جهة ما هو غير مشروع .

                        إلا أن هذا النظر لا يتحصل ؛ لأنه مجمل ، والذي ينبغي أن يقال في جهة البدعة في العمل : لا يخلو أن تنفرد أو تلتصق ، وإن التصقت ؛ فلا تخلو : أن تصير وصفا للمشروع غير منفك ـ إما بالقصد أو بالوضع الشرعي العادي ـ أو لا تصير وصفا ، وإن لم تصر وصفا ؛ فإما أن يكون وضعها [ ص: 499 ] إلى أن تصير وصفا أو لا .

                        فهذه أربعة أقسام لا بد من بيانها في تحصيل هذا المطلوب بحول الله :

                        فأما القسم الأول : وهو أن تنفرد البدعة عن العمل المشروع ـ ؛ فالكلام فيه ظاهر مما تقدم ؛ إلا أنه [ إن ] كان وضعه على جهة التعبد ؛ فبدعة حقيقية ، وإلا فهو فعل من جملة الأفعال العادية ، لا مدخل له فيما نحن فيه ، فالعبادة سالمة ، والعمل العادي خارج من كل وجه .

                        مثاله : الرجل يريد القيام إلى الصلاة ، فيتنحنح مثلا ، أو يتمخط ، أو يمشي خطوات ، أو يفعل شيئا ، ولا يقصد بذا وجها راجعا إلى الصلاة ، وإنما يفعل ذلك عادة أو تقززا ؛ فمثل هذا لا حرج فيه في نفسه ولا بالنسبة إلى الصلاة ، وهو من جملة العادات الجائزة ؛ إلا أنه يشترط فيه أيضا أن لا يكون بحيث يفهم منه الانضمام إلى الصلاة عملا أو قصدا ؛ فإنه إذ ذاك يصير بدعة ، وسيأتي بيانه إن شاء الله .

                        وكذلك أيضا ؛ إذا فرضنا أنه فعل فعلا قصد التقرب مما لم يشرع أصلا ، ثم قام بعده إلى الصلاة المشروعة ، ولم يقصد فعله لأجل الصلاة ، ولا كان مظنة لأن يفهم منه انضمامه إليها ، فلا يقدح في الصلاة ، وإنما يرجع الذم فيه إلى العمل به على الانفراد .

                        ومثله لو أراد القيام إلى العبادة ، ففعل عبادة مشروعة من غير قصد الانضمام ، ولا جعله عرضة لقصد انضمامه ، فتلك العبادتان على [ ص: 500 ] أصالتهما .

                        وكقول الرجل عند الذبح أو العتق : اللهم منك وإليك ، على غير التزام ولا قصد الانضمام .

                        وكقراءة القرآن في الطواف لا بقصد الطواف ولا على الالتزام .

                        فكل عبادة هنا منفردة عن صاحبتها ؛ فلا حرج فيها .

                        وعلى ذلك نقول : لو فرضنا أن الدعاء بهيئة الاجتماع وقع من أئمة المساجد في بعض الأوقات للأمر يحدث عن قحط أو خوف من ملم ؛ لكان جائزا ؛ لأنه على الشرط المذكور ، إذ لم يقع ذلك على وجه يخاف منه مشروعية الانضمام ، ولا كونه سنة تقام في الجماعات ويعلن به في المساجد ؛ كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء الاستسقاء بهيئة الاجتماع وهو يخطب ، وكما أنه دعا أيضا في غير أعقاب الصلوات على هيئة الاجتماع ، لكن في الفرط وفي بعض الأحايين ؛ كسائر المستحبات التي لا يتربص بها وقتا بعينه وكيفية بعينها .

                        وخرج الطبري عن أبي سعيد مولى أسيد . . . قال : كان عمر ( رضي الله عنه ) إذا صلى العشاء ؛ أخرج الناس من المسجد ، فتخلف ليلة مع قوم يذكرون الله ، فأتى عليهم ، فعرفهم ، فألقى درته وجلس معهم ، فجعل يقول : يا فلان ! ادع الله لنا ، يا فلان ! ادع الله لنا ، حتى صار الدعاء إلى غير ، فكانوا يقولون : عمر فظ غليظ ! فلم أر أحدا من الناس تلك الساعة أرق من عمر ( رضي الله عنه ) لا ثكلى ولا أحدا .

                        وعن سلم العلوي ؛ قال : قال رجل لأنس ( رضي الله عنه ) يوما : يا [ ص: 501 ] أبا حمزة ! لو دعوت لنا بدعوات . . . فقال : اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، قال : فأعادها مرارا ثلاثا ، فقال يا أبا حمزة ! لو دعوت . . . فقال مثل ذلك لا يزيد عليه .

                        فإذا كان الأمر على هذا ؛ فلا إنكار فيه ، حتى إذا دخل فيه أمر زائد ؛ صار الدعاء ( فيه ) بتلك الزيادة مخالفا للسنة ؛ فقد جاء في دعاء الإنسان لغيره الكراهية عن السلف ، لا على حكم الأصالة ، بل بسبب ما ينضم إليه من الأمور المخرجة عن الأصل ، ولنذكره هنا لاجتماع أطراف المسألة في التنبيه على الدعاء بهيئة الاجتماع بآثار الصلوات في الجماعات دائما .

                        فخرج الطبري عن مدرك بن عمران ؛ قال : كتب رجل إلى عمر ( رضي الله عنه ) : فادع الله لي ، فكتب إليه عمر : إني لست بنبي ، ولكن إذا أقيمت الصلاة ؛ فاستغفر الله لذنبك .

                        فإباية عمر رضي الله عنه في هذا الموضع ليس من جهة أصل الدعاء ، ولكن من جهة أخرى ، وإلا تعارض كلامه مع ما تقدم ، فكأنه فهم من السائل أمرا زائدا على الدعاء ، فلذلك قال : لست بنبي .

                        ويدلك على هذا ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : أنه لما قدم الشام ؛ أتاه رجل ، فقال : استغفر لي ، فقال : غفر الله لك ، ثم أتاه آخر ، فقال : استغفر لي ، فقال : لا غفر الله لك ولا لذاك ، أنبي أنا ؟ !

                        فهذا أوضح في أنه فهم من السائل أمرا زائدا ، وهو أن يعتقد فيه أنه مثل النبي ، أو أنه وسيلة إلى أن يعتقد ذلك ، أو يعتقد أنه سنة تلزم ، أو يجري في الناس مجرى السنن الملتزمة .

                        [ ص: 502 ] ونحوه عن زيد بن وهب : أن رجلا قال لحذيفة رضي الله عنه : استغفر لي ، فقال : لا غفر الله لك ، ثم قال : هذا يذهب إلى نسائه ، فيقول : استغفر لي حذيفة ، أترضين أن أدعو الله أن تكن مثل حذيفة ؟

                        فدل هذا على أنه وقع في قلبه أمر زائد يكون الدعاء له ذريعة حتى يخرج عن أصله ؛ لقوله بعد ما دعا على الرجل : هذا يذهب إلى نسائه فيقول كذا ؛ أي : فيأتي نساؤه لمثلها ، ويشتهر الأمر حتى يتخذ سنة ، ويعتقد في حذيفة ما لا يحبه هو لنفسه ، وذلك يخرج المشروع عن كونه مشروعا ، ويؤدي إلى التشيع واعتقاد أكثر مما يحتاج إليه .

                        وقد تبين هذا المعنى بحديث رواه ابن علية عن ابن عون ؛ قال : جاء رجل إلى إبراهيم ، فقال : يا أبا عمران ! ادع الله أن يشفيني ، فكره ذلك إبراهيم ، وقطب ، وقال : جاء رجل إلى حذيفة ، فقال : ادع الله أن يغفر لي ، فقال : لا غفر الله لك ، فتنحى الرجل فجلس ، فلما كان بعد ذلك ؛ قال : فأدخلك الله مدخل حذيفة ، أقد رضيت ؟ الآن يأتي أحدكم الرجل كأنه قد أحصر شأنه ، ثم ذكر إبراهيم السنة فرغب فيها ، وذكر ما أحدث الناس فكرهه .

                        وروى منصور عن إبراهيم ؛ قال : كانوا يجتمعون فيتذاكرون فلا يقول بعضهم لبعض : استغفر لنا . . .

                        فتأملوا يا أولي الألباب ما ذكره من هذه الضمائم المنضمة إلى الدعاء ، حتى كرهوا الدعاء إذا انضم إليه ما لم يكن عليه سلف الأمة ، فقس بعقلك ماذا كانوا يقولون في دعائنا بآثار الصلاة ، بل في كثير من [ ص: 503 ] المواطن ، وانظروا إلى استنارة إبراهيم ترغيبه في السنة وكراهية ما أحدث الناس ، بعد تقرير ما تقدم .

                        وهذه الآثار من تخريج الطبري في " تهذيب الآثار " له .

                        وعلى هذا ينبني ما خرجه ابن وهب عن الحارث بن نبهان عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الدرداء ( رضي الله عنه ) : أن ناسا من أهل الكوفة يقرءون عليك السلام ، ويأمرونك أن تدعو لهم وتوصيهم ، فقال : اقرءوا عليهم السلام ، ومروهم أن يعطوا القرآن حقه ؛ فإنه يحملهم ـ أو يأخذ بهم ـ على القصد والسهولة ، ويجنبهم الجور والحزونة ، ولم يذكر أنه دعا لهم .

                        وأما القسم الثاني : وهو أن يصير العمل العادي أو غيره كالوصف للعمل المشروع ؛ إلا أن الدليل على أن العمل المشروع لم يتصف في الشرع بذلك الوصف : فظاهر الأمر انقلاب العمل المشروع غير مشروع ، ويبين ذلك من الأدلة عموم قوله عليه السلام : كل عمل ليس عليه أمرنا ؛ فهو رد .

                        وهذا العمل عند اتصافه بالوصف المذكور عمل ليس عليه أمره عليه الصلاة والسلام ، فهو إذا رد ؛ كصلاة الفرض ـ مثلا ـ إذا صلاها القادر الصحيح قاعدا ، أو سبح في موضع القراءة ، أو قرأ في موضع التسبيح . . . . وما أشبه ذلك .

                        [ ص: 504 ] وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر ، ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها ، فبالغ كثير من العلماء في تعميم النهي ، حتى عدوا صلاة الفرض في ذلك الوقت داخلا تحت النهي ، فباشر النهي الصلاة لأجل اتصافها بأنها واقعة في زمان مخصوص ، كما اعتبر فيها الزمان باتفاق في الفرض ؛ فلا تصلى الظهر قبل الزوال ، ولا المغرب قبل الغروب .

                        ونهى عليه الصلاة والسلام عن صيام الفطر والأضحى ، والاتفاق على بطلان الحج في غير أشهر الحج .

                        فكل من تعبد لله تعالى بشيء من هذه العبادات الواقعة في غير أزمانها ؛ تعبد ببدعة حقيقية لا إضافية ، فلا جهة لها إلى المشروع ، بل غلبت عليها جهة الابتداع ، فلا ثواب فيها على ذلك التقدير .

                        فلو فرضنا قائلا يقول بصحة الصلاة الواقعة في وقت الكراهية ، أو صحة الصوم الواقع يوم العيد ؛ فعلى فرض أن النهي راجع إلى أمر لم يصر للعبادة كالوصف ، بل الأمر منفك منفرد حسبما تبين بحول الله .

                        ويدخل في هذا القسم ما جرى به العمل في بعض الناس ؛ كالذي حكى القرافي عن العجم في اعتقاد كون صلاة الصبح يوم الجمعة ثلاث ركعات ، فإن قراءة سورة السجدة لما التزمت فيها وحوفظ عليها ؛ اعتقدوا فيها الركنية ، فعدوها ركعة ثالثة ، فصارت السجدة إذا وصفا لازما وجزءا من صلاة صبح الجمعة ، فوجب أن تبطل .

                        [ ص: 505 ] وعلى هذا الترتيب ينبغي أن تجري العبادات المشروعة إذا خصت بأزمان مخصوصة بالرأي المجرد ، من حيث فهمنا تلبسا بالأعمال على الجملة ، فصيرورة ذلك الزائد وصفا فيه مخرج له عن أصله ، وذلك أن الصفة مع الموصوف من حيث هي صفة له لا تفارقه هي من جملته ، وذلك لأنا نقول : إن الصفة هي عين الموصوف إذا كانت لازمة له حقيقة أو اعتبارا ، ولو فرضنا ارتفاعها عنه ؛ لارتفع الموصوف من حيث هو موصوف بها ؛ كارتفاع الإنسان بارتفاع الناطق أو الضاحك ، فإذا كانت الصفة الزائدة على المشروع على هذه النسبة ؛ صار المجموع منهما غير مشروع ، فارتفع اعتبار المشروع الأصلي .

                        ومن أمثلة ذلك أيضا قراءة القرآن بالإدارة على صوت واحد ؛ فإن تلك الهيئة زائدة على مشروعية القراءة ، وكذلك الجهر الذي اعتاده أرباب الزوايا .

                        وربما لطف اعتبار الصفة ، فيشك في بطلان المشروعية ؛ كما وقع في " العتبية " عن مالك في مسألة الاعتماد في الصلاة لا يحرك رجليه ، وأن أول من أحدثه رجل قد عرف ، قال : وقد كان مساء ( أي : يساء الثناء عليه ) ، فقيل له : أفعيب ؟ قال : قد عيب عليه ذلك ، وهذا مكروه من الفعل ، ولم يذكر فيها أن الصلاة باطلة ، وذلك لضعف وصف الاعتماد أن يؤثر في الصلاة ، ولطفه بالنسبة إلى كمال هيئتها .

                        وهكذا ينبغي أن يكون النظر في المسألة بالنسبة إلى اتصاف العمل بما يؤثر فيه أو لا يؤثر فيه ، فإذا غلب الوصف على العمل ؛ كان أقرب إلى الفساد ، وإذا لم يغلب ؛ لم يكن أقرب ، وبقي في حكم النظر ، فيدخل [ ص: 506 ] هاهنا نظر الاحتياط للعبادة إذا صار العمل في الاعتبار من المتشابهات .

                        واعلموا أنه حيث قلنا : إن العمل الزائد على المشروع يصير وصفا لها أو كالوصف ؛ فإنما يعتبر بأحد أمور ثلاثة : إما بالقصد ، وإما بالعادة ، وإما بالشرع .

                        أما بالقصد فظاهر ؛ بل هو أصل التشريع في المشروعات بالزيادة أو النقصان .

                        وأما بالعادة ؛ فكالجهر والاجتماع في الذكر المشهور بين متصوفة الزمان ؛ فإن بينه وبين الذكر المشروع بونا بعيدا ، إذ هما كالمتضادين عادة ، وكالذي حكى ابن وضاح عن الأعمش عن بعض أصحابه ، قال : مر عبد الله برجل يقص في المسجد على أصحابه وهو يقول : سبحوا عشرا ، وهللوا عشرا : فقال عبد الله : إنكم لأهدى من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو أضل ، بل هذه ( يعني أضل ) ، وفي رواية عنه : أن رجلا كان يجمع الناس ، فيقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة سبحان الله ، قال : فيقول القوم ، ويقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة الحمد لله ، قال : فيقول القوم ، قال : فمر بهم عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) ، فقال لهم : هديتم لما لم يهد نبيكم ! وإنكم لتمسكون بذنب ضلالة .

                        وذكر له أن ناسا بالكوفة يسبحون بالحصى في المسجد ، فأتاهم وقد كوم كل رجل منهم بين يديه كوما من حصى ؛ قال : فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد ، ويقول : لقد أحدثتم بدعة وظلما ، وقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علما .

                        [ ص: 507 ] فهذه أمور أخرجت الذكر [ عن وصفه ] المشروع ؛ كالذي تقدم من النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة ، أو الصلوات المفروضة إذا صليت قبل أوقاتها ؛ فإنا قد فهمنا من الشرع القصد إلى النهي عنها ، والمنهي عنه لا يكون متعبدا [ به ] ، وكذلك صيام يوم العيد .

                        وخرج ابن وضاح من حديث أبان بن أبي عباس ؛ قال : لقيت طلحة بن عبيد الله الخزاعي ، فقلت له : قوم من إخوانك من أهل السنة والجماعة ، لا يطعنون على أحد من المسلمين ، يجتمعون في بيت هذا يوما وفي بيت هذا يوما ، ويجتمعون يوم النيروز والمهرجان ، ويصومونها ، فقال طلحة : بدعة من أشد البدع ، والله لهم أشد تعظيما للنيروز والمهرجان من عيدهم ، ثم استيقظ أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) ، فرقيت إليه ، وسألته كما سألت طلحة ، فرد علي مثل قول طلحة ؛ كأنهما كان على ميعاد ، فجعل صوم تلك الأيام من تعظيم ما تعظمه النصارى ، وذاك القصد لو كان أفسد للعبادة ؛ فكذلك ما كان نحوه .

                        وعن يونس بن عبيد : أن رجلا قال للحسن : يا أبا سعيد ! ما ترى في مجلسنا هذا ؟ قوم من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد ، نجتمع في بيت هذا يوما ، وفي بيت هذا يوما ، فنقرأ كتاب الله ، وندعو لأنفسنا ولعامة المسلمين ؟ قال : فنهى الحسن عن ذلك أشد النهي .

                        والنقل في هذا المعنى كثير ، فلو لم يبلغ العمل الزائد ذلك المبلغ ؛ كان أخف ، وانفرد العمل بحكمه والعمل المشروع بحكمه ؛ كما حكى ابن وضاح عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ؛ قال : كنت جالسا عند الأسود بن [ ص: 508 ] سريع ، وكان مجلسه في مؤخر المسجد الجامع ، فافتتح سورة بني إسرائيل حتى بلغ : ( وكبره تكبيرا ) ، فرفع أصواتهم الذين كانوا حوله جلوسا ، فجاء مجالد بن مسعود متوكئا على عصاه ، فلما رآه القوم ؛ قالوا : مرحبا ، اجلس ، قال : ما كنت لأجلس إليكم ، وإن كان مجلسكم حسنا ، ولكنكم صنعتم قبلي شيئا أنكره المسلمون ، فإياكم وما أنكر المسلمون .

                        فتحسينه المجلس كان لقراءة القرآن ، وأما رفع الصوت ؛ فكان خارجا عن ذلك ، فلم ينضم إلى العمل الحسن ، حتى إذا انضم إليه ؛ صار المجموع غير مشروع .

                        ويشبه هذا ما في " سماع ابن القاسم عن مالك في القوم يجتمعون جميعا ، فيقرءون في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الإسكندرية ؟ فكره ذلك ، وأنكر أن يكون من عمل الناس .

                        وسئل ابن القاسم أيضا عن نحو ذلك ؟ فحكى الكراهية عن مالك ، ونهى عنها ، ورآها بدعة .

                        وقال في رواية أخرى عن مالك : وسئل عن القراءة بالمسجد ؟ فقال : لم يكن بالأمر القديم ، وإنما هو شيء أحدث ، ولم يأت آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها ، والقرآن حسن .

                        قال ابن رشد : يريد التزام القراءة في المسجد بإثر صلاة من الصلوات على وجه ما مخصوص حتى يصير ذلك كله سنة ؛ مثل ما بجامع قرطبة إثر صلاة الصبح ، قال : فرأى ذلك بدعة .

                        [ ص: 509 ] فقوله في الرواية : " والقرآن حسن " ؛ يحتمل أن يقال : إنه يعني أن تلك الزيادة من الاجتماع وجعله في المسجد منفصل لا يقدح في حسن قراءة القرآن ، ويحتمل ـ وهو الظاهر ـ أنه يقول : قراءة القرآن حسن على غير الوجه ، بدليل قوله في موضع آخر : ما يعجبني أن يقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد ، لا في الأسواق والطرق ، فيريد أنه لا يقرأ إلا على النحو الذي يقرؤه السلف ، وذلك يدل على أن قراءة الإدارة مكروهة عنده ، فلا تفعل أصلا ، وتحرز بقوله : " والقرآن حسن " ؛ من توهم أنه يكره قراءة القرآن مطلقا ، فلا يكون في كلام مالك دليل على انفكاك الاجتماع من القراءة ، والله أعلم .

                        وأما القسم الثالث : وهو أن يصير الوصف عرضة لأن ينضم إلى العبادة ، حتى يعتقد فيه أنه من أوصافها أو جزء منها : فهذا القسم ينظر فيه من جهة النهي عن الذرائع ، وهو إن كان في الجملة متفقا عليه ؛ ففيه في التفصيل نزاع بين العلماء ، إذ ليس كل ما هو ذريعة إلى ممنوع يمنع ؛ بدليل الخلاف الواقع في بيوع الآجال وما كان نحوها ؛ غير أن أبا بكر الطرطوشي يحكي الاتفاق في هذا النوع استقراء من مسائل وقعت للعلماء منعوها سدا للذريعة ، وإذا ثبت الخلاف في بعض التفاصيل ؛ لم ينكر أن يقول به قائل في بعض ما نحن فيه ، ولنمثله أولا ثم نتكلم على حكمه بحول الله .

                        فمن ذلك ما جاء في حديث من نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين ، وجه ذلك عند العلماء مخافة أن يعد ذلك [ ص: 510 ] من جملة رمضان .

                        ومنه ما ثبت عن عثمان رضي الله عنه : أنه كان لا يقصر في السفر ، فيقال له : ألست قصرت مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فيقول : بلى ! ولكني إمام الناس فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي الركعتين ، فيقول : هكذا فرضت ، فالقصر في السفر سنة أو واجب ، ومع ذلك تركه ؛ خوف أن يتذرع به لأمر حادث في الدين غير مشروع .

                        ومنه قصة عمر رضي الله عنه في غسله من الاحتلام حتى أسفر ، وقوله لمن راجعه في ذلك ، وأن يأخذ من أثوابهم ما يصلي به ، ثم يغسل ثوبه على السعة : لو فعلته ؛ لكانت سنة ، بل أغسل ما رأيت ، وأنضح ما لم أر .

                        وقال حذيفة بن أسيد : شهدت أبا بكر وعمر ( رضي الله عنهما ) ، وكانا لا يضحيان مخافة أن يرى أنها واجبة .

                        ونحو ذلك عن ابن مسعود ( رضي الله عنه ) قال : إني لأترك أضحيتي ـ وإني لمن أيسركم ـ ؛ مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة .

                        وكثير من هذا عن السلف الصالح .

                        وقد كره مالك إتباع رمضان بست من شوال ، ووافقه أبو حنيفة ، فقال : لا أستحبها ، مع ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح ، وأخبر [ ص: 511 ] مالك عن غيره ممن يقتدى به أنهم كانوا لا يصومونها ويخافون بدعتها .

                        ومنه ما تقدم في اتباع الآثار ؛ كمجيء قباء ، ونحو ذلك .

                        وبالجملة ؛ فكل عمل أصله ثابت شرعا ؛ إلا أن في إظهار العمل به والمداومة عليه ما يخاف أن يعتقد أنه سنة ؛ فتركه مطلوب في الجملة أيضا من باب سد الذرائع .

                        ولذلك كره مالك دعاء التوجه بعد الإحرام وقبل القراءة ، وكره غسل اليد قبل الطعام ، وأنكر على من جعل ثوبه في المسجد أمامه في الصف .

                        ولنرجع إلى ما كنا فيه .

                        فاعلموا أنه إن ذهب مجتهد إلى عدم سد الذريعة في غير محل النص مما يتضمنه هذا الباب ؛ فلا شك أن العمل الواقع عنده مشروع ، ويكون لصاحبه أجره ، ومن ذهب إلى سدها ـ ويظهر ذلك من كثير من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم ـ ؛ فلا شك أن ذلك العمل ممنوع ، ومنعه يقتضي بظاهره أنه ملوم عليه ، وموجب للذم ؛ إلا أن يذهب إلى أن النهي فيه راجع إلى أمر مجاور ؛ فهو محل نظر واشتباه ربما يتوهم فيه انفكاك الأمرين بحيث يصح أن يكون العمل مأمورا به من جهة نفسه ، ومنهيا عنه من جهة مآله .

                        ولنا فيه مسلكان :

                        ( أحدهما ) : التمسك بمجرد النهي في أصل المسألة ؛ كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا [ ص: 512 ] وقوله تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم .

                        وفي الحديث : أنه عليه السلام : نهى عن أن يجمع بين المتفرق ، ويفرق المجتمع ، خشية الصدقة ، و نهى عن بيع السلف ، وعلله العلماء بالربا المتذرع إليه في ضمن السلف ـ ، ونهى عن الخلوة بالأجنبيات ، وعن سفر المرأة مع غير ذي محرم ، وأمر النساء بالاحتجاب عن أبصار الرجال ، والرجال بغض الأبصار . . . . إلى أشباه ذلك مما عللوا الأمر فيه والنهي بالتذرع لا بغيره .

                        والنهي أصله أن يقع على المنهي عنه وإن كان معللا ، وصرفه إلى أمر مجاور خلاف أصل الدليل ، فلا يعدل عن الأصل إلا بدليل ، فكل عبادة نهي عنها ؛ فليست بعبادة ؛ إذ لو كانت عبادة ؛ لم ينه عنها ، فالعامل بها عامل بغير مشروع ، فإذا اعتقد فيها التعبد مع هذا النهي ؛ كان مبتدعا بها .

                        لا يقال : إن نفس التعليل يشعر بالمجاورة ، وإن الذي نهي عنه غير [ ص: 513 ] الذي أمر به ، وانفكاكهما متصور ؛ لأنا نقول : قد تقرر أن المجاور ؛ إذا صار كالوصف اللازم ؛ انتهض النهي عن الجملة لا عن نفس الوصف بانفراده ، وهو مبين في القسم الثاني .

                        ( المسلك الثاني ) : ما دل في بعض مسائل الذرائع على أن الذرائع في الحكم بمنزلة المتذرع إليه .

                        ومنه ما ثبت في الصحيح من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه ، قالوا : يا رسول الله ! وهل يسب الرجل والديه ؟ ! قال : " نعم ؛ يسب أبا الرجل فيسب أباه وأمه ، فجعل سب الرجل لوالدي غيره بمنزلة سبه لوالديه نفسه ، حتى ترجمه عنها بقوله : أن يسب الرجل والديه ، ولم يقل : أن يسب الرجل والدي من يسب والديه ، أو نحو ذلك ، وهو غاية معنى ما نحن فيه .

                        ومثله حديث عائشة ( رضي الله عنها ) مع أم ولد زيد بن أرقم ( رضي الله عنه ) ، وقولها : أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب ، وإنما يكون هذا الوعيد فيمن فعل ما لا يحل له . . . . .

                        [ ص: 514 ] لا مما فعله كبيرة حتى نزعت آخرا بالآية : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ، وهي نازلة في غير العمل بالربا ، فعدت العمل بما يتذرع به إلى الربا بمنزلة العمل بالربا ، مع أنا نقطع أن زيد بن أرقم وأم ولده لم يقصدوا قصد الربا ، كما لا يمكن ذا عقل أن يقصد والديه بالسب .

                        وإذا ثبت هذا المعنى في بعض الذرائع ؛ ثبت في الجميع ، إذ لا فرق فيما لم يدع مما لم ينص عليه ، إلا ألزم الخصم مثله في المنصوص عليه ، فلا عبادة أو مباحا يتصور فيه أن يكون ذريعة إلى غير جائز ؛ إلا وهو غير عبادة ولا مباح .

                        لكن هذا القسم إنما يكون النهي [ فيه ] بحسب ما يصير وسيلة إليه في مراتب النهي ، [ فـ ] إن كانت البدعة من قبيل الكبائر ؛ فالوسيلة كذلك ، أو من قبيل الصغائر ؛ فهي كذلك ، والكلام في هذه المسألة يتسع ، ولكن هذه الإشارة كافية فيها ، وبالله التوفيق .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية