الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما وقت الوجوب فوقت الوجوب وقت خروج الزرع وظهور الثمر عند أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف وقت الإدراك ، وعند محمد وقت التنقية والجذاذ فإنه قال : إذا كان الثمر قد حصد في الحظيرة وذري البر وكان خمسة أوسق ثم ذهب بعضه كان في الذي بقي منه العشر فهذا يدل على أن وقت الوجوب عنده هو وقت التصفية في الزرع ووقت الجذاذ في الثمر ، هو يقول : تلك الحال هي حال تناهي عظم الحب والثمر واستحكامها فكانت هي حال الوجوب ، وأبو يوسف يحتج بقوله تعالى { وآتوا حقه يوم حصاده } ويوم حصاده هو يوم إدراكه فكان هو وقت الوجوب .

                                                                                                                                ولأبي حنيفة قوله تعالى { أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض } أمر الله تعالى بالإنفاق مما أخرجه من الأرض فدل أن الوجوب متعلق بالخروج ولأنه كما خرج حصل مشتركا كالمال المشترك لقوله تعالى { ومما أخرجنا لكم من الأرض } جعل الخارج للكل فيدخل فيه الأغنياء والفقراء وإذا عرفت وقت الوجوب على اختلافهم فيه ففائدة هذا الاختلاف على قول أبي حنيفة لا تظهر إلا في الاستهلاك فما كان منه بعد الوجوب يضمن عشره وما كان قبل الوجوب لا يضمن .

                                                                                                                                وأما عند أبي يوسف ومحمد فتظهر ثمرة الاختلاف في الاستهلاك وفي الهلاك أيضا في حق تكميل النصاب بالهالك فما هلك بعد الوجوب يعتبر الهالك مع الباقي في تكميل النصاب وما هلك قبل الوجوب لا يعتبر .

                                                                                                                                وبيان هذه الجملة إذا أتلف إنسان الزرع أو الثمر قبل الإدراك حتى ضمن أخذ صاحب المال من المتلف ضمان المتلف وأدى عشره ، وإن أتلف البعض دون البعض أدى قدر عشر المتلف من ضمانه وما بقي فعشره في الخارج ، وإن أتلفه صاحبه ، أو أكله يضمن عشره ويكون دينا في ذمته ، وإن أتلف البعض دون البعض قدر عشر ما أتلف ويكون دينا في ذمته وعشر الباقي يكون في الخارج ، وهذا على أصل أبي حنيفة ; لأن الإتلاف حصل بعد الوجوب لثبوت الوجوب بالخروج والظهور فكان الحق مضمونا عليه كما لو أتلف مال الزكاة بعد حولان الحول .

                                                                                                                                وأما على قولهما فلا يضمن عشر المتلف ; لأن الإتلاف حصل قبل وقت وجوب الحق ولو هلك بنفسه فلا عشر في الهالك بلا خلاف سواء هلك كله ، أو بعضه ; لأن العشر لا يضمن [ ص: 64 ] بالهلاك سواء كان قبل الوجوب ، أو بعده ويكون عشر الباقي فيه قل ، أو كثر في قول أبي حنيفة ; لأن النصاب عنده ليس بشرط .

                                                                                                                                وكذلك عندهما إن كان الباقي نصابا وهو خمسة أوسق وإن لم يكن نصابا لا يعتبر قدر الهالك في تكميل النصاب في الباقي عندهما بل إن بلغ الباقي بنفسه نصابا يكون فيه العشر وإلا فلا هذا إذا هلك قبل الإدراك ، أو استهلك فأما بعد الإدراك والتنقية والجذاذ ، أو بعد الإدراك قبل التنقية والجذاذ ، فإن هلك سقط الواجب بلا خلاف بين أصحابنا كالزكاة تسقط إذا هلك النصاب ، وعند الشافعي لا تسقط ، وقد ذكرنا المسألة وإن هلك بعضه سقط الواجب بقدره وبقي عشر الباقي فيه ، قليلا كان ، أو كثيرا عند أبي حنيفة ; لأن النصاب ليس بشرط عنده ، وعندهما يكمل نصاب الباقي بالهالك ، ويحتسب به في تمام الخمسة الأوسق .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه لا يعتبر الهالك في تمام الأوسق بل يعتبر التمام في الباقي ، فإن كان في نفسه نصابا يكون فيه العشر وإلا فلا ، وإن استهلك : فإن استهلكه المالك ضمن عشره ويكون دينا في ذمته ، وإن استهلك بعضه فقدر عشر المستهلك يكون دينا في ذمته ، وعشر الباقي في الخارج ، وإن استهلكه غير المالك أخذ الضمان منه وأدى عشره ; لأنه هلك إلى خلف وهو الضمان فكان قائما معنى وإن استهلك بعضه أخذ ضمانه وأدى عشر القدر المستهلك وعشر الباقي منه لما قلنا ، وإن أكل صاحب المال من الثمر ، أو أطعم غيره يضمن عشره ويكون دينا في ذمته ، وعشر ما بقي يكون فيه .

                                                                                                                                وهذا على قول أبي حنيفة رحمه الله وروي عن أبي يوسف أن ما أكل ، أو أطعم بالمعروف لا يضمن عشره لكن يعتد به في تكميل النصاب وهو الأوسق فإذا بلغ الكل نصابا أدى عشر ما بقي ، احتج أبو يوسف بما روي عن سهل بن أبي خيثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : إذا خرصتم فجذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فالربع } .

                                                                                                                                وروي { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعث أبا خيثمة خارصا فجاء رجل فقال : يا رسول الله ، إن أبا خيثمة زاد علي ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ابن عمك يزعم أنك قد زدت عليه ، فقال : يا رسول الله ، لقد تركت له قدر عرية أهله وما يطعم المساكين وما يصيب الريح ، فقال صلى الله عليه وسلم فقد زادك ابن عمك وأنصفك } وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { خففوا في الخرص فإن في المال العرية والوصية } والمراد من العرية الصدقة أمر بالتخفيف في الخرص وبين المعنى وهو أن في المال عرية ووصية فلو ضمن عشر ما تصدق ، أو أكل هو وأهله لم يتحقق التخفيف ولأنه لو ضمن ذلك لامتنع من الأكل خوفا من العشر وفيه حرج إلا أنه يعتد بذلك في تكميل النصاب ; لأن نفي وجوب الضمان عنه تخفيفا عليه نظرا له وفي عدم الاعتداد به في تمام الأوسق ضرر به وبالفقراء وهذا لا يجوز ولأبي حنيفة النصوص المقتضية لوجوب العشر في كل خارج من غير فصل بين المأكول والباقي .

                                                                                                                                فإن قيل أليس الله تعالى قال { وآتوا حقه يوم حصاده } أمر بإيتاء الحق يوم الحصاد فلا يجب الحق فيما أخذ منه قبل الحصاد يدل عليه قرينة الآية وهي قوله تعالى { كلوا من ثمره إذا أثمر } وهذا يدل على أن قدر المأكول أفضل إذ لو لم يكن أفضل لم يكن لقوله { كلوا من ثمره إذا أثمر } فائدة ; لأن كل أحد يعلم أن الثمرة تؤكل ولا تصلح لغير الأكل فالجواب أن الآية لازمة له ; لأن الحصاد هو القطع فيقتضي أن كل ما قطع وأخذ منه شيء لزمه إخراج عشره من غير فصل بين ما إذا كان المقطوع مأكولا أوباقيا على أنا نقول بموجب الآية أنه يجب إيتاء حقه يوم حصاده لكن ما حقه يوم حصاده أداء العشر عن الباقي فحسب أم عن الباقي والمأكول ؟ والآية لا تتعرض لشيء من ذلك فكان تمسكا بالمسكوت وإنه لا يصح وأما قوله لا بد وأن يكون لقوله تعالى { كلوا من ثمره إذا أثمر } فائدة ، فنقول يحتمل أن يكون له فائدة سوى ما قلتم وهو إباحة الانتفاع ردا لاعتقاد الكفرة تحريم الانتفاع بهذه الأشياء بجعلها للأصنام فرد ذلك عليهم بقوله عز وجل { كلوا من ثمره إذا أثمر } أي انتفعوا بها ولا تضيعوها بالصرف إلى الأصنام ولذلك قال { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } .

                                                                                                                                وأما الأحاديث فقد قيل أنها وردت قبل حديث العشر ونصف العشر فصارت منسوخة به والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية