الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) قال الزمخشري : ( فإنهم عبادك ) والذين عذبتهم جاحدين لآياتك [ ص: 62 ] مكذبين لأنبيائك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز القوي على الثواب والعقاب ، الحكيم الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب . فإن قلت : المغفرة لا تكون للكفار ، فكيف قال : ( وإن تغفر لهم ) ؟ قلت : ما قال : إنك تغفر لهم ، ولكنه بنى الكلام على أن يقال : إن عذبتهم عدلت; لأنهم أحقاء بالعذاب ، وإن غفرت لهم مع كفرهم ، لم تعدم في المغفرة وجه حكمة; لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول ، بل متى كان المجرم أعظم جرما ، كان العفو عنه أحسن . وهذا من الزمخشري ميل إلى مذاهب أهل السنة ، فإن غفران الكفر جائز عندهم ، وعند جمهور البصريين من المعتزلة عقلا ، قالوا : لأن العقاب حق لله على الذنب ، وفي إسقاط منفعة ، وليس في إسقاطه على الله مضرة ، فوجب أن يكون حسنا ، ودل الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع ، فلعل هذا الدليل السمعي ، ما كان موجودا في شرع عيسى ، عليه السلام انتهى كلام جمهور البصريين من المعتزلة . وقال أهل السنة : مقصود عيسى تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى ، وترك الاعتراض بالكلية ، ولذلك ختم الكلام بقوله : ( فإنك أنت العزيز الحكيم ) أي قادر على ما تريد في كل ما تفعل ، لا اعتراض عليك . وقيل : لما قال لعيسى : ( أأنت قلت للناس ) الآية ، علم أن قوما من النصارى حكوا هذا الكلام عنه ، والحاكي هذا الكفر ، لا يكون كافرا ، بل مذنبا حيث كذب ، وغفران الذنب جائز ، فلهذا قال : ( وإن تغفر لهم ) . وقيل : كان عند عيسى أنهم أحدثوا المعاصي ، وعملوا بعده بما لم يأمرهم به ، إلا أنهم على عمود دينه ، فقال : ( وإن تغفر لهم ) ما أحدثوا بعدي من المعاصي ، وهذا يتوجه على قول من قال : إن قول الله له ( أأنت قلت للناس ) كان وقت الرفع; لأنه قال ذلك ، وهم أحياء لا يدري ما يموتون عليه . وقيل : الضمير في ( تعذبهم ) عائد على من مات كافرا ، وفي ( وإن تغفر لهم ) عائد على من تاب منهم قبل الموت . وقيل : قال ذلك على وجه الاستعطاف لهم ، والرأفة بهم مع علمه بأن الكفار لا يغفر لهم ، ولهذا لم يقل : لأنهم عصوك ؟ انتهى . وهذا فيه بعد; لأن الاستعطاف ، لا يحسن إلا لمن يرجى له العفو والتخفيف ، والكفار لا يرجى لهم ذلك . والذي أختاره من هذه الأقوال; أن قوله تعالى ( وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس ) قول قد صدر ، ومعنى يعطفه على ما صدر ومضى ، ومجيئه بـ ( إذ ) التي هي ظرف لما مضى ، ويقال التي هي حقيقة في الماضي ، فجميع ما جاء في هذه الآيات من ( إذ ) قال : هو محمول على أصل وضعه ، وإذا كان كذلك ، فقول عيسى : ( وإن تغفر لهم ) ، فعبر بالسبب عن المسبب لأنه معلوم أن الغفران مرتب على التوبة ، وإذا كان هذا القول في غير وقت الآخرة ، كانوا في معرض أن يرد فيهم التعذيب أو المغفرة الناشئة عن التوبة . وظاهر قوله : ( فإنك أنت العزيز الحكيم ) أنه جواب الشرط ، والمعنى فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده ، الحكيم فيما تفعله ، تضل من تشاء ، وتهدي من تشاء . وقرأت جماعة فإنك أنت الغفور الرحيم ، على ما يقتضيه قوله : ( وإن تغفر لهم ) . قال عياض بن موسى : ليست من المصحف . وقال أبو بكر بن الأنباري : وقد طعن على القرآن من قال : إن قوله : ( فإنك أنت العزيز الحكيم ) لا يناسب قوله : وإن تغفر لهم; لأن المناسب; فإنك أنت الغفور الرحيم . والجواب : أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله تعالى ، ومتى نقل إلى ما قال هذا الطاعن ضعف معناه ، فإنه ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني ، ولا يكون له بالشرط الأول تعلق ، وهو ما أنزله الله تعالى ، وأجمع على قراءته المسلمون ، معذوق بالشرطين كليهما ، أولهما وآخرهما ، إذ تلخيصه; إن تعذبهم فأنت عزيز حكيم ، وإن تغفر لهم فأنت العزيز الحكيم ، في الأمرين كلاهما من التعذيب ، والغفران ، فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان; لعمومه ، وأنه يجمع الشرطين ، ولم يصلح الغفور الرحيم أن يحتمل ما احتمله العزيز الحكيم انتهى . وأما قول من ذهب [ ص: 63 ] إلى أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، تقديره : إن تعذبهم فإنك أنت العزيز ، وإن تغفر لهم فإنهم عبادك ، فليس بشيء ، وهو قول من اجترأ على كتاب الله بغير علم . روى النسائي عن أبي ذر قال : قام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح بهذه الآية ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية