الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو كفل الذمي عن الذمي للذمي بالخمر من قرض أو غصب أو استهلاك صحت الكفالة ; لأن الخمر مال متقوم عندهم فإن أسلم الطالب سقطت الخمر عن الأصيل والكفيل جميعا لا إلى بدل ; لأنه لا يستوجب الخمر ولا قيمتها ابتداء بهذا السبب على أحد فكذلك لا يبقى ما كان واجبا له ويجعل بإسلامه له كمبرئ الأصيل والكفيل جميعا ، وإن أسلم المطلوب فكذلك الجواب عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - : وعند محمد - رحمه الله - يجب على المطلوب قيمة الخمر ويبقى الكفيل على كفالته وهي رواية زفر - رحمه الله - وخالفه أبو حنيفة - رحمه الله - ; لأن إسلام المطلوب لا يمنع وجوب قيمة الخمر عليه للذمي ابتداء .

( ألا ترى ) أنه لو استهلك المسلم خمر ذمي أو استقرض من ذمي خمرا فأتلفها كانت مضمونة عليه بالقيمة فكذلك تبقى القيمة على المسلم للذمي وقد جعلنا الطالب بإسلامه كالمبرئ والمطلوب لا يمكن أن يجعل بإسلامه كالمبرئ ; لأنه لا يبرئ نفسه ، وإن لم يبرأ الأصيل لا يبرأ الكفيل فيكون للطالب الخيار إن شاء رجع على الأصيل بقيمة الخمر ، وإن شاء رجع على الكفيل بالخمر ثم الكفيل يرجع على الأصيل بقيمة الخمر إن كان كفل بأمره ووجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - أن الخمر التي هي بدل القرض إذا سقطت بالإسلام تسقط لا إلى بدل كما إذا سقطت بإسلام الطالب وكان المعنى فيه أن الطالب لو استوفى القيمة لكان به مملكا من المطلوب الخمر التي في ذمته ولا يجوز تمليك الخمر من المسلم ببدل فتسقط أصلا ; لأن حق إسقاط البدل متى كان متعلقا بشرط تمليك المبدل . فإذا امتنع ذلك يسقط أصلا كمن هشم قلب فضة لإنسان فلصاحب القلب أن يضمنه قيمته من خلاف جنسه بشرط أن يملكه المهشوم فإذا امتنع من ذلك ; لا يرجع عليه بشيء بخلاف ما إذا كان المطلوب مسلما وقت الاستقراض والاستهلاك فإن أصل الخمر لا تجب في ذمته ابتداء وإنما تجب القيمة ولا [ ص: 25 ] يشترط لوجوب القيمة ملك ما يقابله كمن غصب مدبرا أو أتلفه يضمن قيمته من غير أن يملك المدبر به .

فإذا سقطت عندهما الخمر عن المطلوب لا إلى بدل برئ الكفيل ; لأن إبراء الأصيل يوجب براءة الكفيل ولو أسلم الكفيل خاصة سقطت الخمر عن الكفيل لا إلى بدل في قول أبي حنيفة - رحمه الله - وأبي يوسف - رحمه الله - ولكن براءة الكفيل لا توجب براءة الأصيل وكانت الخمر للطالب على المطلوب على حالها وعند محمد - رحمه الله - الطالب بالخيار إن شاء رجع على الكفيل بقيمة الخمر ; لأنه مطلوب وإن شاء رجع على الأصيل بالخمر فإن أخذ من الكفيل قيمة الخمر لم يرجع الكفيل على الأصيل بشيء ; لأنه مطالب في حق الأصيل . وإسلام الطالب يسقط الخمر لا إلى بدل وإن أسلموا جميعا يسقط الخمر لا إلى بدل ; لأن في إسلامهم إسلام الطالب وزيادة ، وكذلك إن أسلم الطالب والكفيل أو الطالب والأصيل فإن أسلم الكفيل والأصيل سقطت الخمر لا إلى بدل عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - ويتحول إلى القيمة عند محمد - رحمه الله - فإذا استوفاه من الكفيل لم يرجع الكفيل على الأصيل ; لأنه طالب في حقه ولو كانت الخمر من ثمن بيع والمسألة بحالها فإن أسلم الطالب أو المطلوب سقطت الخمر لا إلى بدل بالاتفاق لانفساخ البيع بينهما بإسلام أحدهما قبل قبض الخمر وإن أسلم الكفيل خاصة ; فالبيع يبقى على حاله ويسقط الخمر لا إلى بدل من الكفيل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وعند محمد - رحمه الله - يتحول إلى القيمة ; لأن ما في ذمة الكفيل بمنزلة القرض ولو كانت الخمر سلما - والمسألة بحالها - فإن أسلم الطالب والمطلوب سقطت لا إلى بدل لانفساخ العقد بينهما .

وإن أسلم الكفيل يبقى العقد بين رب السلم والمسلم إليه ولكن يبرأ الكفيل بالاتفاق ; لأنه لا يجوز أن يتحول حق رب السلم إلى القيمة دينا في ذمته فإن الاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز ولو كانت الخمر صداقا - والمسألة بحالها - فنقول : أما بيان قول أبي حنيفة - رحمه الله - فالصداق إما أن يكون خمرا أو خنزيرا بعينه أو بغير عينه . فإن كان بعينه وقد كفل به كفيل فهو صحيح ; لأن الصداق مضمون بنفسه في يد الزوج . والكفالة بالأعيان المضمونة بنفسها صحيحة كالمغصوب . وسواء أسلم الزوج والمرأة أو أحدهما أو أسلما جميعا فبقي حقها في العين - كما بيناه في كتاب النكاح - فيكون لها أن تأخذ العين من الزوج ، وإن شاءت طالبت الكفيل بالتسليم ; لأن الزوج لما بقي بالتسليم بعد إسلامه ; يبقى الكفيل مطالبا به أيضا ، وإن كان بغير عينه فإن كان خمرا وأسلمت المرأة فحقها في ذمة الزوج في قيمة الخمر ويبرأ الكفيل من [ ص: 26 ] الكفالة ; لأنها طالبته . وما في ذمة الكفيل بمنزلة بدل القرض فإنه غير واجب بالنكاح بل إنما وجب بالكفالة فيسقط بإسلام الطالب لا إلى بدل فأما في ذمة الزوج فصداق .

وإسلامها يحول الحق إلى قيمة الخمر في صداق بغير عينه عند أبي حنيفة - رحمه الله - وإن أسلم الزوج فحقها عليه في قيمة الخمر ، وإن شاءت طالبت الكفيل بالخمر ; لأن الأصيل ما برئ بإسلامه بل تحول إلى القيمة في حقه لتعذر تسليم عين الخمر عليه ولم يتعذر ذلك على الكفيل فإن استوفت الخمر من الكفيل لم يكن للكفيل أن يرجع على الزوج بشيء ; لأنه بمنزلة المقرض من الأصيل وعند أبي حنيفة - رحمه الله - إسلام المستقرض يسقط الخمر لا إلى بدل وإن أسلم الكفيل فإنها ترجع على الزوج بالخمر وقد برئ الكفيل ; لأن ما في ذمته بمنزلة القرض وإسلام المطلوب عنده يسقط الخمر لا إلى بدل ، وإن كان خنزيرا بغير عينه فإن أسلمت المرأة فلها مهر مثلها على الزوج ولا شيء على الكفيل من ذلك ; لأن الخنزير قد سقط ومهر المثل دين حادث على الزوج والكفيل لم يكفل به ، وإن أسلم الزوج فكذلك الجواب ; لأن الزوج قد برئ عن الخنزير أصلا فيبرأ الكفيل ببراءته ومهر المثل دين حادث على الزوج فليس على الكفيل منه شيء وإن أسلم الكفيل سقط عنه الخنزير لا إلى بدل ولها على الزوج الخنزير أو قيمته على حاله فأما على قول أبي يوسف - رحمه الله - فالجواب في الفصول كلها كما هو قول أبي حنيفة - رحمه الله - في الخنزير بعينه وعلى قول محمد - رحمه الله - الجواب في الفصول كلها كجواب أبي حنيفة - رحمه الله - في الخمر بغير عينها إلا في فصلين : ( أحدهما ) فيما إذا أسلم الزوج وأدى الكفيل عين الخمر فعند محمد رحمه الله يرجع الكفيل على الزوج بقيمة الخمر ; لأنه مطلوب في حقه وإسلام المطلوب عند محمد رحمه الله يسقط الخمر إلى القيمة ( والثاني ) فيما إذا أسلم الكفيل عند محمد - رحمه الله - فلها الخيار : إن شاءت ; رجعت على الزوج بالخمر ، وإن شاءت ; على الكفيل بقيمة الخمر ; لأن الكفيل مطلوب في حقها وإسلام المطلوب عنده يسقط الخمر إلى القيمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية