الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                وخرج البخاري :

                                39 39 - من حديث معن بن محمد الغفاري ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة " .

                                التالي السابق


                                وهذا الحديث تفرد به البخاري ، وتفرد بالتخريج لمعن الغفاري .

                                ومعنى الحديث النهي عن التشديد في الدين بأن يحمل الإنسان نفسه من العبادة ما لا يحتمله إلا بكلفة شديدة ، وهذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : " لن يشاد الدين أحد إلا غلبه " يعني أن الدين لا يؤخذ بالمغالبة ، فمن شاد الدين غلبه وقطعه .

                                وفي " مسند الإمام أحمد " عن محجن بن الأدرع قال : أقبلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بباب المسجد إذا رجل يصلي ، قال : " أتقوله صادقا " ؟ قلت : يا نبي الله ، هذا فلان ، وهذا من أحسن أهل المدينة أو من أكثر أهل المدينة صلاة ! قال : " لا تسمعه فتهلكه - مرتين أو ثلاثا - إنكم أمة أريد بكم اليسر " .

                                وفي رواية له قال : " إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره " .

                                [ ص: 137 ] وفي رواية له أيضا ، قال : " إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة " .

                                وخرجه حميد بن زنجويه ، وزاد : " اكلفوا من العمل ما تطيقون ; فإن الله لا يمل حتى تملوا ، الغدوة والروحة وشيء من الدلجة " .

                                وخرجه ابن مردويه وعنده : قال : " إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ، ولم يرد بها العسر " .

                                وفي " المسند " أيضا عن بريدة قال : خرجت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي . فلحقته ، فإذا نحن بين أيدينا برجل يصلي يكثر الركوع والسجود ، فقال لي : " أتراه يرائي ؟ " قلت : الله ورسوله أعلم ! قال : فترك يده من يدي ، ثم جمع بين يديه ، فجعل يصوبهما ويرفعهما ، ويقول : " عليكم هديا قاصدا ، عليكم هديا قاصدا ، عليكم هديا قاصدا ; فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه " .

                                وفي " المسند " أيضا عن عاصم بن هلال ، عن غاضرة بن عروة الفقيمي ، عن أبيه قال : كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم ، فخرج ، فصلى . فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه : علينا حرج في كذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن دين الله في يسر " ، قالها ثلاثا .

                                وفي المعنى أحاديث أخر .

                                وقوله صلى الله عليه وسلم : سددوا ، وقاربوا ، وأبشروا " :

                                التسديد هو إصابة الغرض المقصود ، وأصله من تسديد السهم إذا أصاب الغرض المرمي إليه ولم يخطئه .

                                [ ص: 138 ] والمقاربة أن يقارب الغرض وإن لم يصبه ، لكن يكون مجتهدا على الإصابة ، فيصيب تارة ويقارب أخرى . أو تكون المقاربة لمن عجز عن الإصابة كما قال تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " .

                                وفي " المسند " و" سنن أبي داود " ، عن الحكم بن حزن الكلفي أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر يوم الجمعة : " أيها الناس ، إنكم لن تطيقوا - أو لن تفعلوا - كل ما أمرتكم ، ولكن سددوا وأبشروا " .

                                وقيل : أراد بالتسديد العمل بالسداد وهو القصد والتوسط في العبادة ، فلا يقصر فيما أمر به ، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه .

                                قال النضر بن شميل : السداد القصد في الدين والسبيل ، وكذلك المقاربة المراد بهما التوسط بين التفريط والإفراط ، فهما كلمتان بمعنى واحد .

                                وقيل : بل المراد بالتسديد التوسط في الطاعات بالنسبة إلى الواجبات والمندوبات ، وبالمقاربة الاقتصار على الواجبات .

                                وقيل فيهما غير ذلك .

                                وقوله : " أبشروا " يعني أن من قصد المراد فليبشر .

                                وخرج البخاري في موضع آخر من " صحيحه " من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " سددوا ، وقاربوا ، وأبشروا " .

                                [ ص: 139 ] وقوله : " واستعينوا بالغدوة والروحة ، وشيء من الدلجة " يعني أن هذه الأوقات الثلاثة أوقات العمل والسير إلى الله ، وهي أول النهار وآخره ، وآخر الليل ; فالغدوة أول النهار ، والروحة آخره ، والدلجة سير آخر الليل .

                                وفي " سنن أبي داود " عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إذا سافرتم فعليكم بالدلجة ; فإن الأرض تطوى بالليل " .

                                فسير آخر الليل محمود في سير الدنيا بالأبدان ، وفي سير القلوب إلى الله بالأعمال .

                                وخرج البخاري هذا الحديث في أواخر كتابه ، وزاد فيه " والقصد القصد تبلغوا " يعني أن من دام على سيره إلى الله في هذه الأوقات الثلاثة مع الاقتصاد بلغ ، ومن لم يقتصد بل بالغ واجتهد فربما انقطع في الطريق ولم يبلغ .

                                وقد جاء من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا " إن هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله ; فإن المنبت لا سفرا قطع ، ولا ظهرا أبقى " .

                                والمنبت هو المنقطع في سفره قبل وصوله ; فلا سفره قطع ، ولا ظهره الذي يسير عليه أبقى حتى يمكنه السير عليه بعد ذلك ، بل هو كالمنقطع في المفاوز ، فهو إلى الهلاك أقرب . ولو أنه رفق براحلته ، واقتصد في سيره عليها - لقطعت به سفره ، وبلغ إلى المنزل .

                                [ ص: 140 ] كما قال الحسن : نفوسكم مطاياكم ; فأصلحوا مطاياكم تبلغكم إلى ربكم عز وجل ، والله أعلم .



                                الخدمات العلمية