الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( إكمال الدين بالقرآن )

                          لم أر لعالم من حكماء الشريعة الإسلامية كلاما في هذه المسألة العظيمة مثل كلام الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي الغرناطي ، فقد ذكرها في غير ما موضع من كتابه ( الموافقات ) الذي لم يؤلف مثله في أصول الإسلام وحكمته ، ومن أوسع كلامه فيها ما ذكره في الطرف الثاني من كتاب " الأدلة الشرعية " منه ، وقد رأينا أن نلخصه هنا تلخيصا ، قال رحمه الله - تعالى - في ( المسألة السادسة ) منه :

                          [ ص: 131 ] " القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيب المتقدم ، فالعالم به على التحقيق عالم بجملة الشريعة ، لا يعوزه منها شيء ، والدليل على ذلك أمور ( منها ) النصوص القرآنية من قوله : اليوم أكملت لكم دينكم الآية ، وقوله : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ( 16 : 89 ) وقوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء ( 6 : 38 ) وقوله : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ( 17 : 9 ) يعني الطريقة المستقيمة ، ولو لم يكمل فيه جميع معانيها - أي الشريعة - لما صح إطلاق هذا المعنى عليه حقيقة . وأشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدى وشفاء لما في الصدور ، ولا يكون شفاء لجميع ما في الصدور إلا وفيه تبيان كل شيء . ومنها ما جاء من الأحاديث والآثار المؤذنة بذلك ; كقوله عليه السلام : إن هذا القرآن حبل الله ، وهو النور المبين ، والشفاء النافع ، عصمة لمن تمسك به ، ونجاة لمن تبعه ، لا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستعتب ولا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الرد ، إلخ ; فكونه حبل الله بإطلاق والشفاء النافع إلى تمامه ، دليل على كمال الأمر فيه ، ونحو هذا في حديث علي عن النبي عليه السلام ، وعن ابن مسعود : أن كل مؤدب يجب أن يؤتى أدبه ، وأن أدب الله القرآن . وسئلت عائشة عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : كان خلقه القرآن ، وصدق ذلك قوله وإنك لعلى خلق عظيم ( 68 : 4 ) .

                          ثم أورد الشاطبي طائفة من كلام علماء السلف الصحابة والتابعين ومن بعدهم في تأييد هذه المسألة ، وقال :

                          " ولقائل أن يقول : إن هذا غير صحيح لما ثبت في الشريعة من المسائل والقواعد غير الموجودة في القرآن ، وإنما وجدت في السنة ، ويصدق ذلك ما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم : " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه " وهذا ذم ومعناه اعتماد [ ص: 132 ] السنة أيضا ، ويصححه قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ( 4 : 59 ) الآية ، قال ميمون بن مهران : الرد إلى الله : الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول إذا كان حيا فلما قبضه الله - تعالى - فالرد إلى سنته . ومثله : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا ( 33 : 36 ) الآية . يقال : إن السنة يؤخذ بها على أنها بيان لكتاب الله بقوله تعالى : لتبين للناس ما نزل إليهم ( 16 : 44 ) وهو جمع بين الأدلة ; لأنا نقول : إن كانت السنة بيانا للكتاب ففي أحد قسميها ; فالقسم الآخر زيادة على حكم الكتاب ، كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها ، وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ، وقيل لعلي بن أبي طالب : هل عندكم كتاب ؟ قال : لا ، إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة ، قال : قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر ، وهذا وإن كان فيه دليل على أنه لا شيء عندهم إلا كتاب الله ، ففيه دليل أن عندهم ما ليس في كتاب الله ، وهو خلاف ما أصلت . والجواب عن ذلك مذكور في الدليل الثاني ، وهو السنة بحول الله . اهـ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية