الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1771 442 - حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا، من أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، وقال: ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن تولى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: " المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا".

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم سبعة: الأول: محمد بن بشار، بفتح الباء الموحدة وتشديد الشين المعجمة، وقد تكرر ذكره.

                                                                                                                                                                                  الثاني: عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري.

                                                                                                                                                                                  الثالث: سفيان الثوري.

                                                                                                                                                                                  الرابع: سليمان الأعمش.

                                                                                                                                                                                  الخامس: إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي.

                                                                                                                                                                                  السادس: أبوه يزيد.

                                                                                                                                                                                  السابع: علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وفيه العنعنة في أربعة مواضع، وفيه أن شيخه بصري، ويلقب ببندار، وكذلك شيخ شيخه بصري، والبقية كوفيون وفيه ثلاثة من التابعين في نسق واحد، وهم الأعمش وإبراهيم وأبوه يزيد، وهذه رواية أكثر أصحاب الأعمش عنه، وخالفهم شعبة فرواه عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد عن علي.

                                                                                                                                                                                  أخرجه النسائي قال: أخبرنا بشر بن خالد العسكري قال: أخبرنا غندر، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم التيمي، " عن الحارث بن سويد قال: قيل لعلي رضي الله تعالى عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خصكم بشيء دون الناس عامة، قال: ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يخص الناس، ليس شيئا في قراب سيفي هذا، فأخذ صحيفة فيها شيء من أسنان الإبل، وفيها: إن المدينة حرم ما بين ثور إلى عير، فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فإن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل، وذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل. انتهى، وقال الدارقطني في العلل: والصواب رواية الثوري ومن تبعه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه) قوله: " ما عندنا شيء" ؛ أي: شيء مكتوب من أحكام الشريعة، وإلا فكان عندهم أشياء من السنة سوى الكتاب؛ لأن السنن لم تكن مكتوبة في الكتب في ذلك الوقت، ولا مدونة في الدواوين.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: (فإن قلت) تقدم باب في كتاب العلم أنه كان في الصحيفة العقل وفكاك الأسير، وهاهنا قال: المدينة حرم.. إلى آخره. (قلت): لا منافاة بينهما؛ لجواز كون الكل فيها.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت) ما سبب قول علي رضي الله تعالى عنه هذا؟ (قلت): يظهر ذلك بما رواه أحمد من طريق قتادة، عن أبي حسان الأعرج، أن عليا رضي الله تعالى عنه كان يأمر بالأمر فيقال له: قد فعلنا، فيقول: صدق الله ورسوله، فقال له الأشتر: هذا الذي تقول شيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما عهد إلي شيئا خاصا دون الناس إلا شيئا سمعته منه، فهو في صحيفة في قراب [ ص: 233 ] سيفي، فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة فإذا فيها" فذكر الحديث، وزاد فيه: " المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، وقال فيه: " إن إبراهيم حرم وإني أحرم ما بين حرتيها، وحماها كله لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها، ولا تقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره، ولا يحمل فيها السلاح لقتال".

                                                                                                                                                                                  والباقي نحوه، وأخرجه الدارقطني من وجه آخر، عن قتادة، عن أبي حسان، عن الأشتر، عن علي رضي الله تعالى عنه، وفي رواية أحمد، وأبي داود، والنسائي من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عباد قال: "انطلقت أنا والأشتر إلى علي رضي الله تعالى عنه فقلنا: هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا، إلا ما في كتابي هذا، قال: وكتاب في قراب سيفه، فإذا فيه: المؤمنون تتكافأ دماؤهم"، فذكر مثل ما تقدم إلى قوله: " في عهده من أحدث حدثا " إلى قوله: " أجمعين"، ولم يذكر بقية الحديث، وروى مسلم من طريق أبي الطفيل: " كنت عند علي فأتاه رجل، فقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إليك؟ فغضب، ثم قال: ما كان يسر إلي شيئا يكتمه عن الناس، غير أنه حدثني بكلمات أربع"، وفي رواية له: " ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم به الناس كافة، إلا ما كان في قراب سيفي هذا، فأخرج صحيفة مكتوب فيها: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثا"، وقد تقدم في كتاب العلم من طريق أبي جحيفة: " قلت لعلي رضي الله تعالى عنه: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله.." الحديث.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): كيف وجه الجمع بين هذه الأخبار؟ (قلت): وجه ذلك أن الصحيفة المذكورة كانت مشتملة على مجموع ما ذكر، فنقل كل من الرواة بعضها، وأتمها سياقا طريق أبي حسان كما ترى، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " المدينة حرم" بفتحتين؛ أي: محرمة، لا تنتهك حرمتها. قوله: " ما بين عائر إلى كذا" ، وعائر بالعين المهملة والألف والهمزة والراء، وهو جبل بالمدينة، ويروى: " ما بين عير" بدون الألف، وقال القاضي عياض: أكثر رواة البخاري ذكروا: " عيرا"، وأما ثور؛ فمنهم من كنى عنه بلفظ: كذا، ومنهم من ترك مكانه بياضا، وقد مر الكلام فيه مستقصى في أول باب حرم المدينة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " من أحدث فيها" ؛ أي: في المدينة، ورواية قيس بن عباد التي تقدمت تفيد بهذا؛ لأن ذلك مختص بالمدينة لفضلها وشرفها. قوله: " أو آوى" بالقصر والمد في الفعل اللازم والمتعدي جميعا، لكن القصر في اللازم، والمد في المتعدي أشهر.

                                                                                                                                                                                  قوله: " محدثا" قد ذكرنا أن فيه فتح الدال وكسرها، فالمعنى بالفتح: أي المحدث في أمر الدين والسنة، ومعنى الكسر: صاحبه الذي أحدثه، أو جاء ببدعة في الدين، أو بدل سنة، وقال التيمي: يعني من ظلم فيها، أو أعان ظالما.

                                                                                                                                                                                  قوله: " صرف" ؛ أي: فريضة، " وعدل"؛ أي: نافلة، وقال الحسن: الصرف النافلة، والعدل الفريضة، عكس قول الجمهور، وقال الأصمعي: الصرف التوبة، والعدل الفدية، قالوا: معناه: لا تقبل قبول رضى وإن قبلت قبول جزاء، وعن أبي عبيدة: الصرف الاكتساب، والعدل الحيلة، وقيل: الصرف الدية، والعدل الزيادة عليها، وقيل بالعكس، وفي المحكم: الصرف الوزن، والعدل الكيل، وقيل: الصرف القيمة، والعدل الاستقامة، وقيل: الصرف الشفاعة، والعدل الفدية، وبه جزم البيضاوي، وقيل: القبول بمعنى تكفير الذنب بهما، وقال عياض: وقد يكون معنى الفدية هنا؛ لأنه لا يجد في القيامة فداء يفتدى به، بخلاف غيره من المذنبين الذين يتفضل الله عز وجل على من يشاء منهم بأنه يفديه من النار بيهودي أو نصراني، كما ثبت في الصحيح.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ذمة المسلمين" ؛ أي: عهدهم وأمانهم صحيح، فإذا آمن الكافر واحد من المسلمين حرم على غيره التعرض له ونقض ذمته، وللأمان شروط مذكورة في كتب الفقه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فمن أخفر مسلما" ؛ أي: نقض عهده يقال: خفرت الرجل، بغير ألف؛ إذا آمنته، وأخفرته؛ إذا نقضت عهده، فالهمزة للإزالة، وقد علم في علم الصرف أن الهمزة في أفعل تأتي لمعان، منها أنها تأتي للسلب، يعني لسلب الفاعل من المفعول أصل الفعل، نحو أشكيته؛ أي: أزلت شكايته، والهمزة في "أخفر" من هذا القبيل.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ومن تولى قوما" ؛ أي: من اتخذهم أولياء. قوله: " بغير إذن مواليه" ليس بشرط لتقييد الحكم بعدم الإذن، وقصره عليه، وإنما هو إيراد الكلام على ما هو الغالب، وقال الخطابي: لم يجعل إذن الموالي شرطا في ادعاء نسب، أو ولاء ليس هو منه وإليه، وإنما ذكر الإذن في هذا تأكيدا للتحريم؛ لأنه إذا استأذنهم في ذلك منعوه، وحالوا بينه وبين ما يفعل من ذلك، وفي رواية مسلم: " وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، ومن ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله". [ ص: 234 ] الحديث. قوله: " يسعى بها" يعني أن ذمة المسلمين سواء صدرت من واحد أو أكثر شريف أو وضيع، فإذا آمن أحد من المسلمين كافرا، وأعطاه ذمته لم يكن لأحد نقضه، فيستوي في ذلك الرجل والمرأة، والحر والعبد؛ لأن المسلمين كنفس واحدة، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) فيه رد على الشيعة فيما يدعونه من أن عليا رضي الله تعالى عنه عنده وصية من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم له بأمور كثيرة من أسرار العلم وقواعد الدين، وفيه جواز كتابة العلم، وفيه المحدث والمروي له في الإثم سواء، وفيه حجة لمن أجاز أمان المرأة والعبد، وهو مذهب مالك والشافعي، وعند أبي حنيفة: لا يجوز إلا إذا أذن المولى لعبده بالقتال.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن نقض العهد حرام، وفيه ذم انتماء الإنسان إلى غير أبيه، أو انتماء العتيق إلى غير معتقه؛ لما فيه من كفر النعمة، وتضييع الحقوق، والولاء، والعقل وغير ذلك، مع ما فيه من قطيعة الرحم والعقوق.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية