الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا، كل حزب بما لديهم فرحون. فذرهم في غمرتهم حتى حين. أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات؟ بل لا يشعرون !

                                                                                                                                                                                                                                      لقد مضى الرسل - صلوات الله عليهم - أمة واحدة، ذات كلمة واحدة، وعبادة واحدة، ووجهة واحدة; فإذا الناس من بعدهم أحزاب متنازعة لا تلتقي على منهج ولا طريق.

                                                                                                                                                                                                                                      ويخرج التعبير القرآني المبدع هذا التنازع في صورة حسية عنيفة. لقد تنازعوا الأمر حتى مزقوه بينهم مزقا، [ ص: 2472 ] وقطعوه في أيديهم قطعا. ثم مضى كل حزب بالمزقة التي خرجت في يده. مضى فرحا لا يفكر في شيء، ولا يلتفت إلى شيء! مضى وأغلق على حسه جميع المنافذ التي تأتيه منها أية نسمة طليقة، أو يدخل إليه منها أي شعاع مضيء! وعاش الجميع في هذه الغمرة مذهولين مشغولين بما هم فيه، مغمورين لا تنفذ إليهم نسمة محيية ولا شعاع منير.

                                                                                                                                                                                                                                      وحين يرسم لهم هذه الصورة يتوجه بالخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - :

                                                                                                                                                                                                                                      فذرهم في غمرتهم حتى حين ..

                                                                                                                                                                                                                                      ذرهم في هذه الغمرة غافلين مشغولين بما هم فيه، حتى يفجأهم المصير حين يجيء موعده المحتوم.

                                                                                                                                                                                                                                      ويأخذ في التهكم عليهم والسخرية من غفلتهم، إذ يحسبون أن الإملاء لهم بعض الوقت، وإمدادهم بالأموال والبنين في فترة الاختبار، مقصود به المسارعة لهم في الخيرات وإيثارهم بالنعمة والعطاء:

                                                                                                                                                                                                                                      أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات؟

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما هي الفتنة، وإنما هو الابتلاء:

                                                                                                                                                                                                                                      بل لا يشعرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      لا يشعرون بما وراء المال والبنين من مصير قاتم ومن شر مستطير!

                                                                                                                                                                                                                                      وإلى جانب صورة الغفلة والغمرة في القلوب الضالة يبرز صورة اليقظة والحذر في القلوب المؤمنة:

                                                                                                                                                                                                                                      إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون. والذين هم بآيات ربهم يؤمنون. والذين هم بربهم لا يشركون. والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون. أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هنا يبدو أثر الإيمان في القلب، من الحساسية والإرهاف والتحرج، والتطلع إلى الكمال. وحساب العواقب. مهما ينهض بالواجبات والتكاليف.

                                                                                                                                                                                                                                      فهؤلاء المؤمنون يشفقون من ربهم خشية وتقوى; وهم يؤمنون بآياته، ولا يشركون به. وهم ينهضون بتكاليفهم وواجباتهم. وهم يأتون من الطاعات ما استطاعوا.. ولكنهم بعد هذا كله: يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون لإحساسهم بالتقصير في جانب الله، بعد أن بذلوا ما في طوقهم، وهو في نظرهم قليل.

                                                                                                                                                                                                                                      عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: يا رسول الله. " الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة " هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: لا يا بنت الصديق! ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق، وهو يخاف الله عز وجل"

                                                                                                                                                                                                                                      إن قلب المؤمن يستشعر يد الله عليه. ويحس آلاءه في كل نفس وكل نبضة.. ومن ثم يستصغر كل عباداته، ويستقل كل طاعاته، إلى جانب آلاء الله ونعمائه. كذلك هو يستشعر بكل ذرة فيه جلال الله وعظمته; ويرقب بكل مشاعره يد الله في كل شيء من حوله.. ومن ثم يشعر بالهيبة، ويشعر بالوجل، ويشفق أن يلقى الله وهو مقصر في حقه، لم يوفه حقه عبادة وطاعة ولم يقارب أياديه عليه معرفة وشكرا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2473 ] وهؤلاء هم الذين يسارعون في الخيرات، وهم الذين يسبقون لها فينالونها في الطليعة، بهذه اليقظة، وبهذا التطلع، وبهذا العمل، وبهذه الطاعة. لا أولئك الذين يعيشون في غمرة ويحسبون لغفلتهم أنهم مقصودون بالنعمة، مرادون بالخير، كالصيد الغافل يستدرج إلى مصرعه بالطعم المغري. ومثل هذا الطير في الناس كثير، يغمرهم الرخاء، وتشغلهم النعمة، ويطغيهم الغنى، ويلهيهم الغرور، حتى يلاقوا المصير!

                                                                                                                                                                                                                                      تلك اليقظة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم. والتي يستجيشها الإيمان بمجرد استقراره في القلوب.. ليست أمرا فوق الطاقة، وليست تكليفا فوق الاستطاعة. إنما هي الحساسية الناشئة من الشعور بالله والاتصال به; ومراقبته في السر والعلن; وهي في حدود الطاقة الإنسانية، حين يشرق فيها ذلك النور الوضيء:

                                                                                                                                                                                                                                      ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد شرع الله التكاليف وفق ما يعلم من استعداد النفوس; وهو محاسبهم وفق ما يعملونه في حدود الطاقة، لا يظلمون بتحميلهم ما لا يطيقون; ولا ببخسهم شيئا مما يعملون، وكل ما يعملونه محسوب في سجل ينطق بالحق ويبرزه ظاهرا غير منقوص. والله خير الحاسبين.

                                                                                                                                                                                                                                      إنما يغفل الغافلون لأن قلوبهم في غمرة عن الحق، لم يمسسها نوره المحيي، لانشغالها عنه، واندفاعها في التيه; حتى تفيق على الهول، لتلقى العذاب الأليم، وتلقى معه التوبيخ والتحقير:

                                                                                                                                                                                                                                      بل قلوبهم في غمرة من هذا، ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون. حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون. لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون. قد كانت آياتي تتلى عليكم، فكنتم على أعقابكم تنكصون، مستكبرين به سامرا تهجرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      فعلة اندفاعهم فيما هم فيه ليست هي تكليفهم بما هو فوق الطاقة; إنما العلة أن قلوبهم في غمرة، لا ترى الحق الذي جاء به القرآن، وأنهم مندفعون في طريق آخر غير النهج الذي جاء به: ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يرسم مشهد انتباههم على الكارثة الباغتة المفاجئة: حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      والمترفون أشد الناس استغراقا في المتاع والانحراف والذهول عن المصير. وها هم أولاء يفاجأون بالعذاب الذي يأخذهم أخذا، فإذا هم يرفعون أصواتهم بالجؤار، مستغيثين مسترحمين (وذلك في مقابل الترف والغفلة والاستكبار والغرور) ثم ها هم أولاء يتلقون الزجر والتأنيب: لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون .. وإذا المشهد حاضر، وهم يتلقون الزجر والتأنيب، والتيئيس من كل نجدة ومن كل نصير، والتذكير بما كان منهم وهم في غمرتهم مستغرقون: قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون فتتراجعون على أعقابكم كأن ما يتلى عليكم خطر تحاذرونه، أو مكروه تجانبونه، مستكبرين عن الإذعان للحق. ثم تزيدون على هذا سوء القول وهجره في سمركم، حيث تتناولون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به بكلمات السوء.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كانوا يطلقون ألسنتهم بهجر القول وفحشه في مجالسهم; وهم يتحلقون حول الأصنام في سامرهم بالكعبة. فها هو ذا القرآن يرسم لهم مشهد حسابهم على ما هم فيه; وهم يجأرون طالبين الغوث، فيذكرهم بسمرهم الفاحش، وهجرهم القبيح. وكأنما هو واقع اللحظة، وهم يشهدونه ويعيشون فيه! وذلك على [ ص: 2474 ] طريقة القرآن الكريم في رسم مشاهد القيامة كأنها واقع مشهود .

                                                                                                                                                                                                                                      والمشركون في تهجمهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى القرآن في نواديهم وفي سمرهم يمثلون الكبرياء الجاهلة، التي لا تدرك قيمة الحق لأنها مطموسة البصيرة عمياء، فتتخذ منه مادة للسخرية والهزء والاتهام. ومثل هؤلاء في كل زمان. وليست جاهلية العرب إلا نموذجا لجاهليات كثيرة خلت في الزمان; وما تزال تظهر الآن بعد الآن!

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية