الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وجملة القول : أن الله - تعالى - أكمل الدين بالقرآن وبيان نبيه - صلى الله عليه وسلم - للناس ما نزل إليهم فيه ، فما صح من بيانه لا يعدل عنه إلى غيره ، وما بعد سنته نور يهتدى به في [ ص: 138 ] فهم أحكامه للعالم بلغته مثل إجماع الصحابة ، أو عمل السواد الأعظم منهم وممن تبعهم في هداهم ، فمن رغب عن سنتهم ضل وغوى ولم يسلم من اتباع الهوى ، وأما ما توسع فيه بعض المصنفين في الفقه بعد الصحابة والتابعين من أحكام العبادات والحلال والحرام بدعوى القياس الشرعي فهو ينافي إكمال الدين ويسره ، ورفع الحرج منه ، وقد أنكر بعض أئمة العلماء هذا القياس ، وخصه بعضهم بما عدا العبادات ، وفي معناها الحلال والحرام ، على أنهم يستنبطون من عبارات شيوخهم فيجعلونها كنصوص الشرع ، وإن لم تضبط بالرواية كما ضبطت نصوص الشرع ، ويعدون تعليلاتهم كتعليلات الكتاب والسنة ، فيجعلونها دليلا على الأحكام ومدارا للاستنباط ، بل صاروا يقدمونها على الكتاب والسنة ، فما وافقها منهما جعلوه دليلا لها ، وما خالفته منهما أوجبوا العمل بها دونهما ، فصارت أحكام الدين المستنبطة على هذه الطريقة أضعاف أضعاف الأحكام المنصوصة ، وهجر الكتاب والسنة لأجلها ، فهل يتفق هذا مع الاعتقاد بأن الله أكمل الدين بكتابه ، وبينه بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ أما القياس الصحيح وما نيط منه بأولي الأمر من المؤمنين ، فقد بيناه في تفسير يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ( 4 : 59 ) وسيأتي لهذه المباحث مزيد في تفسير لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ( 5 : 101 ) من هذه السورة إن شاء الله تعالى .

                          والمختار عندنا في إكمال الدين ما قاله ابن عباس ، وتبعه عليه الجمهور ، من أن المراد بالدين فيه عقائده وأحكامه وآدابه ( العبادات وما في معناها بالتفصيل ، والمعاملات بالإجمال ونوطها بأولي الأمر ) ويدخل فيه ما اختاره ابن جرير من أمر الحج دخولا أوليا بقرينة الحال ; أمر القوة واكتفاء أمر المشركين ، قد علم من قوله اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ( 5 : 3 ) ويزيده تقريرا وتأكيدا قوله : وأتممت عليكم نعمتي ( 5 : 3 ) ولولا أن المراد بالدين جملته ومجموعه لما قال : ورضيت لكم الإسلام دينا ( 5 : 3 ) . فالعجب من ابن جرير كيف أذهله ما توهمه من تعارض الروايات عن هذا النص ! .

                          هذا وإن قول ابن عباس رضي الله عنه : إن الله أكمله فلا ينقصه أبدا ، أثبت وأظهر من قول عمر رضي الله عنه : ما بعد الكمال إلا النقص ، إلا أن يجمع بينهما بأن ابن عباس أراد الدين نفسه ، وعمر أراد قوة الأخذ والاستمساك به والإخلاص فيه ; إذ لا شك في أن هذا المعنى كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أتم وأكمل ، فالراجح أنه هو مراد عمر ، ويؤيده ما روي عنه أنه فهم من الآية قرب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وروي ذلك عن أبي بكر [ ص: 139 ] أيضا ، رضي الله عنهما وعن سائر الآل والصحب الصادقين المخلصين ، الذين حفظوا لنا بحفظ القرآن والعمل به وبالسنة ، هذا الدين ، فالعمدة في معرفته حق المعرفة القرآن والسنة العملية التي لم تعرف إلا بجريهم عليها ، ولا سعة لمسلم أن يخرج عن هذين الأمرين باجتهاده ورأيه ، أما ما لم يجر عليه العمل ، ولم يرد في القرآن من أخبار الآحاد القولية أو العملية التي لم تكن سنة متبعة للسواد الأعظم منهم ، فهي التي يجوز أن تكون محلا لاجتهاد المجتهدين من حيث صحة روايتها وتحقيق المراد منها ، وسلامتها من المعارضة ، والترجيح بين المتعارضات منها ، ولا يصح أن يكون شيء من ذلك عقيدة ، ولا أمرا كليا من أمور الدين ; إذ لو صح هذا لكان منافيا لمنة الله على المؤمنين كافة بأنه أكمل لهم الدين ، وأتم عليهم النعمة ، ولا يعقل أن يكون هذا الإكمال والإتمام متوقفا على ما لم يطلع عليه إلا الآحاد من الناس ، بل يكون هذا النوع في الفروع والمسائل الجزئية التي ينفع العلم بها ولا يضر أحدا في دينه أن يجهلها ; ولهذا لم يشترط أحد من العلماء في الاجتهاد والإمامة في فهم الدين الإحاطة بأحاديث الآحاد المتعلقة بهذه الجزئيات .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية