الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم قال عز وجل : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم الاضطرار هو دفع الإنسان إلى ما يضره وحمله عليه أو إلجاؤه إليه ; فهو صيغة افتعال من الضرر ، وأصل معناه : الضيق ، وهذه الصيغة تدل على التكلف ، فالاضطرار تكلف ما يضر بملجئ يلجئ إليه ، والملجئ إلى ذلك إما أن يكون من نفس الإنسان ، وحينئذ لا بد أن يكون ضررا حاصلا أو متوقعا يلجئ إلى التخلص منه بما هو أخف منه ، عملا بقاعدة : " ارتكاب أخف الضررين " الثابتة عقلا وطبعا وشرعا ، وإما أن يكون من غير نفسه ; كإكراه بعض الأقوياء بعض الضعفاء على ما يضرهم ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : ثم أضطره إلى عذاب النار ( 2 : 126 ) وما نحن فيه من القسم الأول ، والضرر الملجئ فيه هو : المخمصة ، أي المجاعة ، وهي مأخوذة من خمص البطن ، أي ضموره لفقد الطعام ، فالجوع ضرر يدفع الإنسان إلى تكلف أكل الميتة ، وإن كان يعافها طبعا ويتضرر بها لو تكلف أكلها في حال الاختيار ، سواء أكان بها علة أم لا ، وقد وافق الشرع الفطرة فأباح للمضطر أكل الميتة وغيرها من المحرمات لهذه الضرورة ، ولا يبيح ذلك أي جوع يعرض للإنسان ، ولا الجوع الشديد مطلقا ، بل الجوع الذي لا يجد معه الجائع شيئا يسد به رمقه إلا المحرم مما ذكر . يدل على هذا المعنى قوله : في مخمصة أي : فمن اضطر فأكل مما ذكر حال كونه في مجاعة محيطة به إحاطة الظرف بالمظروف ، لا يجد منفذا منها إلا ما ذكر ، وحال كونه : غير متجانف لإثم أي : غير جائر فيه أو متمايل إليه متعمد له ، فالجنف : الميل والجور ، ويصدق بالميل إلى الأكل ابتداء ، وبالجور فيه بأكل الكثير ، وهو في معنى قوله في آيتي الأنعام والنحل : [ ص: 140 ] فمن اضطر غير باغ ولا عاد ( 6 : 145 ) أي غير طالب له ولا متعد ومتجاوز قدر الضرورة فيه ; فعبارة سورة المائدة أوجز ، وإنما اشترط هذا لأن الإباحة للضرورة ، فيشترط تحققها أولا وكونها هي الحامل على الأكل ، وأن تقدر بقدرها ، فيأكل بقدر ما يدفع الضرر لا يعدوه إلى الشبع ، وهذا الشرط معقول في حكم الضرورات ، فهو نافع للمضطر أدبا وطبعا ; لأنه يمنعه أن يتجرأ على تعود ما فيه مهانة له وضرر . والظاهر أن المضطر مخير بين تلك المحرمات ، أو يختار أقلها ضررا ، وقد يكون أشهاها إليه فإن الله غفور رحيم أي فمن اضطر إلى أكل شيء مما ذكر ، فأكل منه في مجاعة لا يجد فيها غيره ، وهو غير مائل إليه لذاته ولا جائر فيه متجاوز قدر الضرورة - فإن الله غفور لمثله لا يؤاخذه على ذلك ، رحيم به يرحمه ويحسن إليه .

                          الأصل في الأشياء الحل ; إذ من المعلوم بسنن الفطرة وآيات الكتاب أن الله سخر هذه الأرض وما فيها للناس ينتفعون بها ويظهرون أسرار خلق الله وحكمه فيها ، وإنما المحظور عليهم هو ما يضرهم . ولكن الناس لا يقفون عند حدود الفطرة واتقاء المضرة وجلب المنفعة ، بل دأبهم الجناية على فطرتهم ، والتصدي أحيانا لفعل ما يضرهم وترك ما ينفعهم ، ومن ذلك أن العرب استباحت أكل الميتة والدم المسفوح من الخبائث الضارة ، وحرمت على أنفسها بعض الطيبات من الأنعام بأوهام باطلة ; كالبحيرة والسائبة وغير ذلك ، كما سيأتي بيانه في أواخر هذه السورة وفي سورة الأنعام ، ولأجل هذا كانت الحاجة قاضية ببيان ما يحله الله مما حرموه ، بعد بيان ما حرمه مما أحلوه ، وذلك قوله تعالى :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية