الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2478 ] ولقد كان مشركو العرب مضطربي العقيدة، لا ينكرون الله، ولا ينكرون أنه مالك السماوات والأرض، مدبر السماوات والأرض، المسيطر على السماوات والأرض.. ولكنهم مع ذلك يشركون معه آلهة مدعاة، يقولون: إنهم يعبدونها لتقربهم من الله، وينسبون له البنات. سبحانه وتعالى عما يصفون:

                                                                                                                                                                                                                                      فهو هنا يأخذهم بمسلماتهم التي يقرون بها، ليصحح ذلك الاضطراب في العقيدة، ويردهم إلى التوحيد الخالص الذي تقود إليه مسلماتهم، لو كانوا يستقيمون على الفطرة ولا ينحرفون:

                                                                                                                                                                                                                                      قل: لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟ سيقولون: لله. قل: أفلا تذكرون؟ قل: من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقولون: لله. قل: أفلا تتقون؟ قل: من بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، إن كنتم تعلمون؟ سيقولون: لله. قل: فأنى تسحرون؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الجدال يكشف عن مدى الاضطراب الذي لا يفيء إلى منطق، ولا يرتكن إلى عقل; ويكشف عن مدى الفساد الذي كانت عقائد المشركين قد وصلت إليه في الجزيرة عند مولد الإسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      قل: لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟ .. فهو سؤال عن ملكية الأرض ومن فيها: سيقولون: لله .. ولكنهم مع ذلك لا يذكرون هذه الحقيقة وهم يتوجهون بالعبادة لغير الله: قل: أفلا تذكرون؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      قل: من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم .. فهو سؤال عن الربوبية المدبرة، المصرفة للسماوات السبع والعرش العظيم. والسماوات السبع قد تكون أفلاكا سبعة، أو مجموعات نجمية سبعة، أو سدما سبعة، أو عوالم سبعة، أو أية خلائق فلكية سبعة. والعرش رمز للاستعلاء والهيمنة على الوجود.. فمن هو رب السماوات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقولون: لله ولكنهم مع ذلك لا يخافون صاحب العرش، ولا يتقون رب السماوات السبع، وهم يشركون معه أصناما مهينة، ملقاة على الأرض لا تريم.. قل: أفلا تتقون ..

                                                                                                                                                                                                                                      قل: من بيده ملكوت كل شيء؟ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون؟ .. فهو سؤال عن السيطرة والسطوة والسلطان. سؤال عمن بيده ملكية كل شيء ملكية استعلاء وسيطرة. ومن هو الذي يجير بقوته من يشاء فلا يناله أحد; ولا يملك أحد أن يجير عليه، وأن ينقذ من يريده بسوء من عباده.. من؟ سيقولون: لله فما لهم يصرفون عن عبادة الله؟ وما لعقولهم تنحرف وتتخبط كالذي مسه السحر: قل: فأنى تسحرون؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      ألا إنه الاضطراب والتخبط الذي يصاب به المسحورون!

                                                                                                                                                                                                                                      وفي اللحظة المناسبة لتقرير حقيقة ما جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد، وبطلان ما يدعونه من الولد والشريك.. في اللحظة المناسبة بعد ذلك الجدل يجيء هذا التقرير:

                                                                                                                                                                                                                                      بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون. ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله. إذا لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض. سبحان الله عما يصفون. عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون .

                                                                                                                                                                                                                                      يجيء هذا التقرير في أساليب شتى.. بالإضراب عن الجدل معهم، وتقرير كذبهم الأكيد: بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون . ثم يفصل فيما هم كاذبون: ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله .. ثم يأتي بالدليل الذي ينفي دعواهم، ويصور ما في عقيدة الشرك من سخف واستحالة: إذا لذهب كل إله بما خلق مستقلا بما خلقه، يصرفه حسب ناموس خاص; فيصبح لكل جزء من الكون، أو لكل فريق [ ص: 2479 ] من المخلوقات ناموس خاص لا يلتقي فيه بناموس عام يصرف الجميع. ولعلا بعضهم على بعض بغلبة سيطرته وتصريفه على الكون الذي لا يبقى ولا ينتظم إلا بناموس واحد، وتصريف واحد، وتدبير واحد.

                                                                                                                                                                                                                                      وكل هذه الصور لا وجود لها في الكون، الذي تشهد وحدة تكوينه بوحدة خالقه، وتشهد وحدة ناموسه بوحدة مدبره. وكل جزء فيه وكل شيء يبدو متناسقا مع الأجزاء الأخرى بلا تصادم ولا تنازع ولا اضطراب.. سبحان الله عما يصفون ..

                                                                                                                                                                                                                                      عالم الغيب والشهادة فليس لغيره من خلق يستقل به، ويعلم من دون الله أمره. فتعالى عما يشركون .

                                                                                                                                                                                                                                      وعند هذا الحد يلتفت عن خطابهم وجدلهم وحكاية حالهم، إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأمره أن يتوجه إلى ربه مستعيذا به أن يجعله مع هؤلاء القوم - إن كان قد قدر له أن يرى تحقيق ما وعدهم به من العذاب. وأن يستعيذ به كذلك من الشياطين، فلا تثور نفسه، ولا يضيق صدره بما يقولون:

                                                                                                                                                                                                                                      قل: رب إما تريني ما يوعدون. رب فلا تجعلني في القوم الظالمين. وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون. ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون. وقل: رب أعوذ بك من همزات الشياطين. وأعوذ بك رب أن يحضرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منجاة من أن يجعله الله مع القوم الظالمين حين يحل بهم العذاب الأليم، ويتحقق ما يوعدون، ولكن هذا الدعاء زيادة في التوقي; وتعليم لمن بعده ألا يأمنوا مكر الله، وأن يظلوا أبدا أيقاظا، وأن يلوذوا دائما بحماه.

                                                                                                                                                                                                                                      والله قادر على أن يحقق ما وعد به الظالمين في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - :

                                                                                                                                                                                                                                      وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد أراه بعض ما وعدهم في غزوة بدر. ثم في الفتح العظيم.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما حين نزول هذه السورة - وهي مكية - فكان منهج الدعوة دفع السيئة بالتي هي أحسن; والصبر حتى يأتي أمر الله; وتفويض الأمر لله:

                                                                                                                                                                                                                                      ادفع بالتي هي أحسن السيئة. نحن أعلم بما يصفون .

                                                                                                                                                                                                                                      واستعاذة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من همزات الشياطين ودفعاتهم - وهو معصوم منها - زيادة كذلك في التوقي، وزيادة في الالتجاء إلى الله، وتعليم لأمته وهو قدوتها وأسوتها، أن يتحصنوا بالله من همزات الشياطين في كل حين. بل إن الرسول ليوجه إلى الاستعاذة بالله من مجرد قرب الشياطين، لا من همزاتهم ودفعاتهم:

                                                                                                                                                                                                                                      وأعوذ بك رب أن يحضرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويحتمل أن تكون الاستعاذة من حضورهم إياه ساعة الوفاة. ويرشح لهذا المعنى ما يتلوه في السياق:

                                                                                                                                                                                                                                      حتى إذا جاء أحدهم الموت ... على طريقة القرآن في تناسق المعاني وتداعيها..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية