الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ القول في شروط المسروق ]

وأما المسروق فإن له شرائط مختلفا فيها .

فمن أشهرها : اشتراط النصاب
، وذلك أن الجمهور على اشتراطه ، إلا ما روي عن الحسن البصري أنه قال : القطع في قليل المسروق وكثيره ، لعموم قوله تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) الآية . وربما احتجوا بحديث أبي هريرة خرجه البخاري ومسلم عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده " . وبه قالت الخوارج وطائفة من المتكلمين .

والذين قالوا باشتراط النصاب في وجوب القطع - وهم الجمهور - اختلفوا في قدره اختلافا كثيرا ، إلا أن الاختلاف المشهور من ذلك الذي يستند إلى أدلة ثابتة ، وهو قولان : أحدهما : قول فقهاء الحجاز مالك والشافعي وغيرهم . والثاني : قول فقهاء العراق .

وأما فقهاء الحجاز فأوجبوا القطع في ثلاثة دراهم من الفضة ، وربع دينار من الذهب . واختلفوا فيما تقوم به سائر الأشياء المسروقة مما عدا الذهب والفضة ، فقال مالك في المشهور : تقوم بالدراهم لا بالربع [ ص: 758 ] دينار ( أعني : إذا اختلفت الثلاثة دراهم مع الربع دينار لاختلاف الصرف ، مثل أن يكون الربع دينار في وقت درهمين ونصفا ) ، وقال الشافعي : الأصل في تقويم الأشياء هو الربع دينار ، وهو الأصل أيضا للدراهم فلا يقطع عنده في الثلاثة دراهم إلا أن تساوي ربع دينار . وأما مالك : فالدنانير والدراهم عند كل واحد منهما معتبر بنفسه وقد روى بعض البغداديين عنه أنه ينظر في تقويم العروض إلى الغالب في نقود أهل ذلك البلد ، فإن كان الغالب الدراهم قومت بالدراهم ، وإن كان الغالب الدنانير قومت بالربع دينار ، وأظن أن في المذهب من يقول إن الربع دينار يقوم بالثلاثة دراهم ، وبقول الشافعي في التقويم قال أبو ثور ، والأوزاعي وداود ، وبقول مالك المشهور قال أحمد ( أعني : بالتقويم بالدراهم ) .

وأما فقهاء العراق فالنصاب الذي يجب القطع فيه هو عندهم عشرة دراهم لا يجب في أقل منه . وقد قال جماعة منهم ابن أبي ليلى ، وابن شبرمة : لا تقطع اليد في أقل من خمسة دراهم ، وقد قيل : في أربعة دراهم ، وقال عثمان البتي : في درهمين .

فعمدة فقهاء الحجاز ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر : " أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم " ، وحديث عائشة أوقفه مالك وأسنده البخاري ومسلم إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا " .

وأما عمدة فقهاء العراق فحديث ابن عمر المذكور ، قالوا : ولكن قيمة المجن هو عشرة دراهم ، وروي ذلك في أحاديث . وقد خالف ابن عمر في قيمة المجن من الصحابة كثير ممن رأى القطع في المجن كابن عباس وغيره . وقد روى محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال : " كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم " . قالوا : وإذا وجد الخلاف في ثمن المجن وجب أن لا تقطع اليد إلا بيقين ، وهذا الذي قالوه هو كلام حسن لولا حديث عائشة ، وهو الذي اعتمده الشافعي في هذه المسألة وجعل الأصل هو الربع دينار .

وأما مالك فاعتضد عنده حديث ابن عمر بحديث عثمان الذي رواه ، وهو أنه قطع في أترجة قومت بثلاثة دراهم ، والشافعي يعتذر عن حديث عثمان من قبل أن الصرف كان عندهم في ذلك الوقت اثني عشرة درهما ، والقطع في ثلاثة دراهم أحفظ للأموال ، والقطع في عشرة دراهم أدخل في باب التجاوز والصفح عن يسير المال وشرف العضو ، والجمع بين حديث ابن عمر وحديث عائشة وفعل عثمان ممكن على مذهب الشافعي ، وغير ممكن على مذهب غيره ، فإن كان الجمع أولى من الترجيح فمذهب الشافعي أولى المذاهب ، فهذا هو أحد الشروط المشترطة بالقطع .

واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور وهو إذا سرقت الجماعة ما يجب فيه القطع ( أعني : نصابا ) دون أن يكون حظ كل واحد منهم نصابا ، وذلك أن يخرجوا النصاب من الحرز معا ، مثل أن يكون عدلا أو صندوقا يساوي النصاب ، فقال مالك : يقطعون جميعا ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور ، وقال أبو حنيفة : لا قطع عليهم حتى يكون ما أخذه كل واحد منهم نصابا .

فمن قطع الجميع رأى العقوبة إنما تتعلق بقدر مال المسروق ( أي : أن هذا القدر من المال المسروق هو الذي يوجب القطع لحفظ المال ) ، ومن رأى أن القطع إنما علق بهذا القدر لا بما دونه لمكان حرمة اليد [ ص: 759 ] قال : لا تقطع أيد كثيرة فيما أوجب فيه الشرع قطع يد واحدة .

واختلفوا متى يقدر المسروق ، فقال مالك : يوم السرقة ، وقال أبو حنيفة : يوم الحكم عليه بالقطع .

وأما الشرط الثاني في وجوب هذا الحد فهو الحرز ، وذلك أن جميع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وأصحابهم متفقون على اشتراط الحرز في وجوب القطع ، وإن كان قد اختلفوا فيما هو حرز مما ليس بحرز . والأشبه أن يقال في حد الحرز إنه ما شأنه أن تحفظ به الأموال كي يعسر أخذها مثل الإغلاق والحظائر وما أشبه ذلك ، وفي الفعل الذي إذا فعله السارق اتصف بالإخراج من الحرز على ما سنذكره بعد . وممن ذهب إلى هذا مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي والثوري وأصحابهم ، وقال أهل الظاهر وطائفة من أهل الحديث : القطع على من سرق النصاب وإن سرقه من غير حرز .

فعمدة الجمهور حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل ، فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن " . ومرسل مالك أيضا عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي بمعنى حديث عمرو بن شعيب .

وعمدة أهل الظاهر عموم قوله تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) الآية . قالوا : فوجب أن تحمل الآية على عمومها ، إلا ما خصصته السنة الثابتة من ذلك ، وقد خصصت السنة الثابتة المقدار الذي يقطع فيه من الذي لا يقطع فيه . وردوا حديث عمرو بن شعيب لموضع الاختلاف الواقع في أحاديث عمرو بن شعيب ، وقال أبو عمر بن عبد البر : أحاديث عمرو بن شعيب العمل بها واجب إذا رواها الثقات .

وأما الحرز عند الذين أوجبوه فإنهم اتفقوا منه على أشياء واختلفوا في أشياء ، مثل اتفاقهم على أن باب البيت وغلقه حرز ، واختلافهم في الأوعية . ومثل اتفاقهم على أن من سرق من دار غير مشتركة السكنى أنه لا يقطع حتى يخرج من الدار ، واختلافهم في الدار المشتركة ، فقال مالك وكثير ممن اشترط الحرز : تقطع يده إذا أخرج من البيت ، وقال أبو يوسف ، ومحمد : لا قطع عليه إلا إذا أخرج من الدار .

ومنها اختلافهم في القبر هل هو حرز حتى يجب القطع على النباش ، أو ليس بحرز ؟ فقال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وجماعة : هو حرز ، وعلى النباش القطع ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه ، وكذلك قال سفيان الثوري ، وروي ذلك عن زيد بن ثابت .

والحرز عند مالك بالجملة هو كل شيء جرت العادة بحفظ ذلك الشيء المسروق فيه ، فمرابط الدواب عنده أحراز ، وكذلك الأوعية ، وما على الإنسان من اللباس ، فالإنسان حرز لكل ما عليه أو هو عنده . وإذا توسد النائم شيئا فهو حرز له على ما جاء في حديث صفوان بن أمية وسيأتي بعد ، وما أخذه من المنتبه فهو اختلاس . ولا يقطع عند مالك سارق ما كان على الصبي من الحلي أو غيره إلا أن يكون معه حافظ يحفظه ، ومن سرق من الكعبة شيئا لم يقطع عنده ، وكذلك من المساجد ، وقد قيل في المذهب إنه إن سرق منها ليلا قطع . وفروع هذا الباب كثيرة فيما هو حرز وما ليس بحرز .

واتفق القائلون بالحرز على أن كل من سمي مخرجا للشيء من حرزه وجب عليه القطع ، وسواء كان داخل الحرز أو خارجه . وإذا ترددت التسمية وقع الخلاف ، مثل اختلاف المذهب إذا كان سارقان [ ص: 760 ] أحدهما داخل البيت ، والآخر خارجه ، فقرب أحدهما المتاع المسروق إلى ثقب في البيت فتناوله الآخر ، فقيل : القطع على الخارج المتناول له ، وقيل : لا قطع على واحد منهما ، وقيل : القطع على المقرب للمتاع من الثقب .

والخلاف في هذا كله آيل إلى انطلاق اسم المخرج من الحرز عليه أو لانطلاقه . فهذا هو القول في الحرز واشتراطه في وجوب القطع .

ومن رمى بالمسروق من الحرز ثم أخذه خارج الحرز فقطع ، وقد توقف مالك فيه إذا أخذ بعد رميه وقبل أن يخرج ، وقال ابن القاسم : يقطع .

التالي السابق


الخدمات العلمية