الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ياأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس يقال فسح له يفسح فسحا : أي وسع له ، ومنه قولهم بلد فسيح .

                                                                                                                                                                                                                                      أمر الله سبحانه بحسن الأدب مع بعضهم بعضا بالتوسعة في المجلس وعدم التضايق فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال قتادة ، ومجاهد ، والضحاك : كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض ، وقال الحسن ، ويزيد بن أبي حبيب : هو مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب كانوا يتشاحون على الصف الأول ، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال لتحصيل الشهادة فافسحوا يفسح الله لكم أي فوسعوا يوسع الله لكم في الجنة ، أو في كل ما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق وغيرهما .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور تفسحوا في المجلس وقرأ السلمي ، وزر بن حبيش ، وعاصم في المجالس على الجمع ، لأن لكل واحد منهم مجلسا ، وقرأ قتادة ، والحسن ، وداود بن أبي هند ، وعيسى بن عمر " تفاسحوا " قال الواحدي : والوجه التوحيد في المجلس ؛ لأنه يعني به مجلس النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال القرطبي : الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر ، سواء كان مجلس حرب ، أو ذكر ، أو يوم الجمعة ، وأن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه ، ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك فيخرجه الضيق عن موضعه ، ويؤيد هذا حديث ابن عمر عند البخاري ، ومسلم وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم [ ص: 1469 ] يجلس فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا وإذا قيل انشزوا فانشزوا قرأ الجمهور بكسر الشين فيها ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم بضمها فيهما ، وهما لغتان بمعنى واحد ، يقال نشز : أي ارتفع ينشز وينشز كعكف يعكف ويعكف ، والمعنى : إذا قيل لكم انهضوا فانهضوا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال جمهور المفسرين : أي انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد ، والضحاك ، وعكرمة : كان رجال يتثاقلون عن الصلاة ، فقيل لهم إذا نودي للصلاة فانهضوا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحسن : انهضوا إلى الحرب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن زيد : هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال الله تعالى : وإذا قيل انشزوا عن النبي صلى الله عليه وسلم فانشزوا فإن له حوائج فلا تمكثوا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال قتادة : المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف ، والظاهر حمل الآية على العموم ، والمعنى : إذا قيل لكم انهضوا إلى أمر من الأمور الدينية فانهضوا ولا تتثاقلوا ، ولا يمنع من حملها على العموم كون السبب خاصا ، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو الحق ، ويندرج ما هو سبب النزول فيها اندراجا أوليا ، وهكذا يندرج ما فيه السياق وهو التفسيح في المجلس اندراجا أوليا ، وقد قدمنا أن معنى : نشز ارتفع ، وهكذا يقال نشز ينشز : إذا تنحى عن موضعه ، ومنه امرأة ناشز : أي متنحية عن زوجها ، وأصله مأخوذ من النشز ، وهو ما ارتفع من الأرض وتنحى ، ذكر معناه النحاس .

                                                                                                                                                                                                                                      يرفع الله الذين آمنوا منكم في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما والذين أوتوا العلم درجات أي ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا والثواب في الآخرة ، ومعنى الآية أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات ، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات ثم رفعه بعلمه درجات ، وقيل المراد بالذين آمنوا من الصحابة وكذلك الذين أوتوا العلم ، وقيل المراد بالذين أوتوا العلم الذين قرءوا القرآن ، والأولى حمل الآية على العموم في كل مؤمن وكل صاحب علم من علوم الدين من جميع أهل هذه الملة ، ولا دليل يدل على تخصيص الآية بالبعض دون البعض ، وفي هذه الآية فضيلة عظيمة للعلم وأهله ، وقد دل على فضله وفضلهم آيات قرآنية وأحاديث نبوية والله بما تعملون خبير لا يخفى عليه شيء من أعمالكم من خير وشر ، فهو مجازيكم بالخير خيرا وبالشر شرا .

                                                                                                                                                                                                                                      ياأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة المناجاة المساررة ، والمعنى : إذا أردتم مساررة الرسول في أمر من أموركم فقدموا بين يدي مساررتكم له صدقة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحسن : نزلت بسبب أن قوما من المسلمين كانوا يستخلون النبي صلى الله عليه وسلم يناجونه ، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى ، فشق عليهم ذلك ، فأمرهم الله بالصدقة عند النجوى لتقطعهم عن استخلائه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال زيد بن أسلم : نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون إنه أذن يسمع كل ما قيل له ، وكان لا يمنع أحدا من مناجاته وكان ذلك يشق على المسلمين ، لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعا اجتمعت لقتاله ، فأنزل الله : ياأيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول فلم ينتهوا ، فأنزل الله هذه الآية ؛ فانتهى أهل الباطل عن النجوى ؛ لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة ، وشق ذلك على أهل الإيمان ، وامتنعوا عن النجوى لضعف كثير منهم عن الصدقة فخفف الله عنهم بالآية التي بعد هذه ، والإشارة بقوله : ذلك إلى ما تقدم من تقديم الصدقة بين يدي النجوى ، وهو مبتدأ وخبره خير لكم وأطهر لما فيه من طاعة الله ، وتقييد الأمر بكون امتثاله خيرا لهم من عدم الامتثال وأطهر لنفوسهم يدل على أنه أمر ندب لا أمر وجوب فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم يعني من كان منهم لا يجد تلك الصدقة المأمور بها بين يدي النجوى ، فلا حرج عليه في النجوى بدون صدقة .

                                                                                                                                                                                                                                      أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات أي أخفتم الفقر والعيلة لأن تقدموا ذلك ، والإشفاق : الخوف من المكروه والاستفهام للتقرير .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل المعنى : أبخلتم ، وجمع الصدقات هنا باعتبار المخاطبين .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقاتل بن حيان : إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكلبي : ما كان ذلك إلا ليلة واحدة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال قتادة : ما كان إلا ساعة من النهار .

                                                                                                                                                                                                                                      فإذ لم تفعلوا ما أمرتم به من الصدقة بين يدي النجوى ، وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به ولم يفعل ، وأما من لم يجد فقد تقدم الترخيص له بقوله : فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم وتاب الله عليكم بأن رخص لكم في الترك ، و " إذ " على بابها في الدلالة على المضي ، وقيل هي بمعنى إذا ، وقيل بمعنى إن ، " وتاب " معطوف على " لم تفعلوا " : أي وإذا لم تفعلوا وإذ تاب عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة والمعنى : إذا وقع منكم التثاقل عن امتثال الأمر بتقديم الصدقة بين يدي النجوى فاثبتوا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله فيما تؤمرون به وتنهون عنه والله خبير بما تعملون لا يخفى عليه من ذلك شيء فهو مجازيكم ، وليس في الآية ما يدل على تقصير المؤمنين في امتثال هذا الأمر ، أما الفقراء منهم فالأمر واضح ، وأما من عداهم من المؤمنين فإنهم لم يكلفوا بالمناجاة حتى تجب عليهم الصدقة بل أمروا بالصدقة إذا أرادوا المناجاة ، فمن ترك المناجاة فلا يكون مقصرا في امتثال الأمر بالصدقة ، على أن في الآية ما يدل على أن الأمر للندب كما قدمنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد استدل بهذه الآية من قال بأنه يجوز النسخ قبل إمكان الفعل ، وليس هذا الاستدلال بصحيح ، فإن النسخ لم يقع إلا بعد إمكان الفعل ، وأيضا قد فعل ذلك البعض ، فتصدق بين يدي نجواه كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال : أنزلت هذه الآية إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس يوم [ ص: 1470 ] جمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة ، وفي المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ، ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام ، فلم يفسح لهم ، فشق ذلك عليه ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : قم يا فلان وأنت يا فلان ، فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه ، فنزلت هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : ذلك في مجلس القتال وإذا قيل انشزوا قال : إلى الخير والصلاة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر ، والحاكم وصححه والبيهقي في المدخل عن ابن عباس في قوله : يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات قال : يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤمنوا درجات .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في تفسير هذه الآية قال : يرفع الله الذين آمنوا منكم وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عنه قال : ما خص الله العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية ، فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : إذا ناجيتم الرسول الآية قال : إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه ، فأراد الله أن يخفف عن نبيه ، فلما قال ذلك ضن كثير من الناس وكفوا عن المسألة ، فأنزل الله بعد هذا أأشفقتم الآية ، فوسع الله عليهم ولم يضيق .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والترمذي وحسنه وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والنحاس ، وابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال : لما نزلت ياأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : ما ترى دينارا ؟ قلت : لا يطيقونه . قال : فنصف دينار ؟ قلت : لا يطيقونه ، قال : فكم ؟ قلت : شعيرة ، قال : إنك لزهيد ، قال : فنزلت : أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات الآية ، فبي خفف الله عن هذه الأمة والمراد بالشعيرة هنا وزن شعيرة من ذهب ، وليس المراد واحدة من حب الشعير .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه قال : ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت ، وما كانت إلا ساعة : يعني آية النجوى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور ، وابن راهويه ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضا قال : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى " ياأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة " كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم ، فكنت كلما ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما ، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد ، فنزلت : " أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات " الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطبراني ، وابن مردويه - قال السيوطي : بسند ضعيف - عن سعد بن أبي وقاص قال : نزلت ياأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة فقدمت شعيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لزهيد ، فنزلت الآية الأخرى أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية