الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2521 ] في مقابل ذلك النور المتجلي في السماوات والأرض، المتبلور في بيوت الله، المشرق في قلوب أهل الإيمان، يعرض السياق مجالا آخر، مجالا مظلما لا نور فيه، مخيفا لا أمن فيه، ضائعا لا خير فيه، ذلك هو مجال الكفر الذي يعيش فيه الكفار:

                                                                                                                                                                                                                                      والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد الله عنده فوفاه حسابه. والله سريع الحساب. أو كظلمات في بحر لجي، يغشاه موج من فوقه موج، من فوقه سحاب. ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها. ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

                                                                                                                                                                                                                                      والتعبير يرسم لحال الكافرين ومآلهم مشهدين عجيبين، حافلين بالحركة والحياة.

                                                                                                                                                                                                                                      في المشهد الأول يرسم أعمالهم كسراب في أرض مكشوفة مبسوطة، يلتمع التماعا كاذبا، فيتبعه صاحبه الظامئ، وهو يتوقع الري غافلا عما ينتظره هناك، وفجأة يتحرك المشهد حركة عنيفة، فهذا السائر وراء السراب، الظامئ الذي يتوقع الشراب، الغافل عما ينتظره هناك يصل فلا يجد ماء يرويه، إنما يجد المفاجأة المذهلة التي لم تخطر له ببال، المرعبة التي تقطع الأوصال، وتورث الخبال: ووجد الله عنده ! الله الذي كفر به وجحده، وخاصمه وعاداه، وجده هنالك ينتظره! ولو وجد في هذه المفاجأة خصما له من بني البشر لروعه، وهو ذاهل غافل على غير استعداد، فكيف وهو يجد الله القوي المنتقم الجبار؟

                                                                                                                                                                                                                                      فوفاه حسابه .. هكذا في سرعة عاجلة تتناسق مع البغتة والفجاءة. والله سريع الحساب .. تعقيب يتناسق مع المشهد الخاطف المرتاع!

                                                                                                                                                                                                                                      وفي المشهد الثاني تطبق الظلمة بعد الالتماع الكاذب; ويتمثل الهول في ظلمات البحر اللجي، موج من فوقه موج، من فوقه سحاب، وتتراكم الظلمات بعضها فوق بعض، حتى ليخرج يده أمام بصره فلا يراها لشدة الرعب والظلام!

                                                                                                                                                                                                                                      إنه الكفر ظلمة منقطعة عن نور الله الفائض في الكون، وضلال لا يرى فيه القلب أقرب علامات الهدى، ومخافة لا أمن فيها ولا قرار.. ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .. ونور الله هدى في القلب; وتفتح في البصيرة; واتصال في الفطرة بنواميس الله في السماوات والأرض; والتقاء بها على الله نور السماوات والأرض، فمن لم يتصل بهذا النور فهو في ظلمة لا انكشاف لها، وفي مخالفة لا أمن فيها، وفي ضلال لا رجعة منه. ونهاية العمل سراب ضائع يقود إلى الهلاك والعذاب; لأنه لا عمل بغير عقيدة، ولا صلاح بغير إيمان، إن هدى الله هو الهدى، وإن نور الله هو النور.

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك مشهد الكفر والضلال والظلام في عالم الناس، يتبعه مشهد الإيمان والهدى والنور في الكون الفسيح، مشهد يتمثل فيه الوجود كله، بمن فيه وما فيه، شاخصا يسبح لله: إنسه وجنه، أملاكه وأفلاكه، أحياؤه وجماده، وإذا الوجود كله تتجاوب بالتسبيح أرجاؤه، في مشهد يرتعش له الوجدان حين يتملاه:

                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض، والطير صافات. كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن الإنسان ليس مفردا في هذا الكون الفسيح; فإن من حوله، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته; وحيثما امتد به النظر أو طاف به الخيال، إخوان له من خلق الله، لهم طبائع شتى، وصور شتى، [ ص: 2522 ] وأشكال شتى.ولكنهم بعد ذلك كله يلتقون في الله، ويتوجهون إليه، ويسبحون بحمده: والله عليم بما يفعلون ..

                                                                                                                                                                                                                                      والقرآن يوجه الإنسان إلى النظر فيما حوله من صنع الله، وإلى من حوله من خلق الله في السماوات والأرض، وهم يسبحون بحمده وتقواه; ويوجه بصره وقلبه خاصة إلى مشهد في كل يوم يراه، فلا يثير انتباهه ولا يحرك قلبه لطول ما يراه.ذلك مشهد الطير صافات أرجلها وهي طائرة في الفضاء تسبح بحمد الله: كل قد علم صلاته وتسبيحه .. والإنسان وحده هو الذي يغفل عن تسبيح ربه; وهو أجدر خلق الله بالإيمان والتسبيح والصلاة.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن الكون ليبدو في هذا المشهد الخاشع متجها كله إلى خالقه، مسبحا بحمده، قائما بصلاته; وإنه لكذلك في فطرته، وفي طاعته لمشيئة خالقه الممثلة في نواميسه، وإن الإنسان ليدرك - حين يشف - هذا المشهد ممثلا في حسه كأنه يراه; وإنه ليسمع دقات هذا الكون وإيقاعاته تسابيح لله.وإنه ليشارك كل كائن في هذا الوجود صلاته ونجواه، كذلك كان محمد بن عبد الله - صلاة الله وسلامه عليه - إذا مشى سمع تسبيح الحصى تحت قدميه، وكذلك كان داود - عليه السلام - يرتل مزاميره فتؤوب الجبال معه والطير.

                                                                                                                                                                                                                                      ولله ملك السماوات والأرض، وإلى الله المصير ..

                                                                                                                                                                                                                                      فلا اتجاه إلا إليه، ولا ملجأ من دونه، ولا مفر من لقائه، ولا عاصم من عقابه، وإلى الله المصير.

                                                                                                                                                                                                                                      ومشهد آخر من مشاهد هذا الكون التي يمر عليها الناس غافلين; وفيها متعة للنظر، وعبرة للقلب، ومجال للتأمل في صنع الله وآياته، وفي دلائل النور والهدى والإيمان:

                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر أن الله يزجي سحابا، ثم يؤلف بينه، ثم يجعله ركاما، فترى الودق يخرج من خلاله. وينزل من السماء من جبال فيها من برد، فيصيب به من يشاء، ويصرفه عن من يشاء، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار .

                                                                                                                                                                                                                                      والمشهد يعرض على مهل وفي إطالة، وتترك أجزاؤه للتأمل قبل أن تلتقي وتتجمع، كل أولئك لتؤدي الغرض من عرضها في لمس القلب وإيقاظه، وبعثه إلى التأمل والعبرة، وتدبر ما وراءها من صنع الله.

                                                                                                                                                                                                                                      إن يد الله تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان، ثم تؤلف بينه وتجمعه، فإذا هو ركام بعضه فوق بعض، فإذا ثقل خرج منه الماء، والوبل الهاطل، وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة، فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة.ومشهد السحب كالجبال لا يبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير بينها، فإذا المشهد مشهد الجبال حقا، بضخامتها، ومساقطها، وارتفاعاتها وانخفاضاتها، وإنه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس، إلا بعد ما ركبوا الطائرات.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الجبال مسخرة بأمر الله، وفق ناموسه الذي يحكم الكون; ووفق هذا الناموس يصيب الله بالمطر من يشاء، ويصرفه عمن يشاء، وتكملة المشهد الضخم: يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ذلك ليتم التناسق مع جو النور الكبير في الكون العريض، على طريقة التناسق في التصوير.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم مشهد كوني ثالث: مشهد الليل والنهار:

                                                                                                                                                                                                                                      يقلب الله الليل والنهار. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ..

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2523 ] والتأمل في تقلب الليل والنهار بهذا النظام الذي لا يختل ولا يفتر يوقظ في القلب الحساسية وتدبر الناموس الذي يصرف هذا الكون والتأمل في صنع الله، والقرآن يوجه القلب إلى هذه المشاهد التي ذهبت الألفة بوقعها المثير; ليواجه القلب هذا الكون دائما بحس جديد، وانفعال جديد.فعجيبة الليل والنهار كم شاقت القلب البشري، وهو يتأملها أول مرة، وهي هي لم تتغير; ولم تفقد جمالها وروعتها، إنما القلب البشري هو الذي صدئ وهمد، فلم يعد يخفق لها، وكم ذا نفقد من حياتنا، وكم ذا نخسر من جمال هذا الوجود، حين نمر غافلين بهذه الظواهر التي شاقت حسنا وهي جديدة، أو وحسنا هو الجديد!.

                                                                                                                                                                                                                                      والقرآن يجدد حسنا الخامد، ويوقظ حواسنا الملول، ويلمس قلبنا البارد، ويثير وجداننا الكليل; لنرتاد هذا الكون دائما كما ارتدناه أول مرة، نقف أمام كل ظاهرة نتأملها، ونسألها عما وراءها من سر دفين، ومن سحر مكنون، ونرقب يد الله تفعل فعلها في كل شيء من حولنا، ونتدبر حكمته في صنعته، ونعتبر بآياته المبثوثة في تضاعيف الوجود.

                                                                                                                                                                                                                                      إن الله - سبحانه - يريد أن يمن علينا، بأن يهبنا الوجود مرة كلما نظرنا إلى إحدى ظواهره; فاستعدنا نعمة الإحساس بها كأننا نراها أول مرة؛ فنظل نجد الكون مرات لا تحصى، وكأننا في كل مرة نوهبه من جديد; ونستمتع به من جديد.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن هذا الوجود لجميل وباهر ورائع، وإن فطرتنا لمتوافقة مع فطرته، مستمدة من النبع الذي يستمد منه، قائمة على ذات الناموس الذي يقوم عليه، فالاتصال بضمير هذا الوجود يهبنا أنسا وطمأنينة، وصلة ومعرفة، وفرحة كفرحة اللقاء بالقريب الغائب أو المحجوب!.

                                                                                                                                                                                                                                      وإننا لنجد نور الله هناك، فالله نور السماوات والأرض، نجده في الآفاق وفي أنفسنا في ذات اللحظة التي نشهد فيها هذا الوجود بالحس البصير، والقلب المتفتح، والتأمل الواصل إلى حقيقة التدبير.

                                                                                                                                                                                                                                      لهذا يوقظنا القرآن المرة بعد المرة، ويوجه حسنا وروحنا إلى شتى مشاهد الوجود الباهرة، كي لا نمر عليها غافلين مغمضي الأعين، فنخرج من رحلة الحياة على ظهر هذه الأرض بغير رصيد، أو برصيد قليل هزيل،

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية