الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق السابع والخمسون والمائة بين قاعدة البيع توسع العلماء فيه حتى جوز مالك البيع بالمعاطاة وهي الأفعال دون شيء من الأقوال وزاد على ذلك حتى قال كل ما عده الناس بيعا فهو بيع وقاعدة النكاح وقع التشديد فيها في اشتراط الصيغ حتى لا أعلم أنه وجد لمالك القول بالمعاطاة فيه ألبتة بل لا بد من لفظ )

قال صاحب الجواهر ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأييد كالنكاح والتزويج والتمليك والبيع والهبة ونحوها قال القاضي أبو الحسن ولفظ الصدقة وقال الأصحاب إن قصد بلفظ الإباحة النكاح صح ويضمن المهر فيكفي قول الزوج قبلت بعد الإيجاب من الولي ولا يشترط قبلت نكاحها ولو قال للأب في البكر أو بعد الإذن في الثيب زوجني فقال فعلت أو زوجتك فقال لا أرضى لزمه النكاح لاجتماع جزأي العقد فإن السؤال رضى في العادة أيضا وقال صاحب المقدمات لا ينعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج دون غيرهما من ألفاظ العقود وفي الهبة قولان المنع كمذهب الشافعي والجواز كمذهب أبي حنيفة لأن الطلاق يقع بالصريح والكناية فكذلك النكاح ويرد عليه أن الهبة لا تنعقد بلفظ النكاح فكذلك النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة وأن النكاح مفتقر إلى الصريح ليقع الإشهاد عليه وقال صاحب الاستذكار ابن عبد البر أجمعوا على أنه لا ينعقد بلفظ الإحلال والإباحة فتقاس عليه الهبة وقال ابن العربي في القبس جوزه أبو حنيفة بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد وجوزه مالك بكل لفظ يفهم المتناكحان مقصودهما وقال الشافعي لا ينعقد إلا بلفظ التزويج والنكاح لأنهما المذكوان في القرآن في قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } وقوله تعالى { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها } ووافقه أحمد بن حنبل وأجابوا عما احتج به مالك مما ورد في الحديث وهو قوله عليه السلام { ملكتكها بما معك من القرآن } أن الحديث ورد بألفاظ مختلفة والقصة واحدة فيستحيل اجتماعها بل الواقع أحدها والراوي روى بالمعنى فلا حجة فيه ولم يستثن أبو حنيفة غير الإجارة والوصية والإحلال وجوزه بالعجمية وإن قدر على العربية وجوز الجواب من [ ص: 144 ] الزوج بقوله فعلت فهذه نصوص العلماء على اختلافها لم يقل فيها أحد بالمعاطاة كما قالوه في البيع والفرق مبني على خمس قواعد

( القاعدة الأولى ) أن الشهادة شرط في النكاح إما مقارنة للعقد كما قال الشافعي أو قبل الدخول كما قال مالك وعلى التقديرين فلا بد من لفظ يشهد عليه أنه تزويج لا زنى وسفاح والبيع لما لم يكن الإشهاد فيه شرطا جوزوا فيه المناولة

( القاعدة الثانية ) أن قاعدة الشرع أن الشيء إذا عظم قدره شدد فيه وكثرت شروطه وبالغ إبعاده إلا لسبب قوي تعظيما لشأنه ورفعا لقدره وهو شأن الملوك في العوائد ولذلك إن المرأة النفيسة في مالها وجمالها ودينها ونسبها لا يوصل إليها إلا بالمهر الكثير والتوسل العظيم وكذلك المناصب الجليلة والرتب العلية في العادة وأما في الشرع فالذهب والفضة لما كانا رءوس الأموال وقيم المتلفات شدد الشرع فيهما فاشترط المساواة والتناجز وغير ذلك من الشروط التي لم يشترطها في البيع في سائر العروض والطعام لما كان قوام بنية الإنسان منع بيعه نسيئة بعضه ببعض ومنع مالك بيعه قبل قبضه دون غيره من السلع فكذلك النكاح عظيم الخطر جليل المقدار لأنه سبب بقاء النوع الإنساني المكرم المفضل على جميع المخلوقات وسبب العفاف الحاسم لمادة الفساد واختلاط الأنساب وسبب المودة والمواصلة والسكون وغير ذلك من المصالح فلذلك شدد الشرع فيه فاشترط الصداق والشهادة والولي وخصوص الألفاظ دونه البيع

( القاعدة الثالثة ) كل حكم شرعي لا بد له من سبب شرعي وإباحة المرأة حكم فله سبب يجب تلقيه من السمع فما لم يسمع من الشرع لا يكون سببا وعلى هذه القاعدة اعتمد الشافعي والمغيرة من أصحابنا وهو ظاهر مما نقله ابن رشد في المقدمات عن المذهب

( القاعدة الرابعة ) الشرع قد ينصب خصوص الشيء سببا كالزوال ورؤية الهلال لوجوب الظهر ووجوب الصوم والقتل العمد والعدوان سبب القصاص وقد ينصب مشتركا بين أشياء سببا ويبغي خصوصاتها كألفاظ الطلاق فإن المنصوب منها سببا ما دل على انطلاق المرأة من عصمة الرجل وألفاظ القذف المنصوب منها سببا ما دل على نسبة المقذوف إلى الزنى أو اللواط وألفاظ الدخول في الإسلام المنصوب منها سببا ما دل على مقصود الرسالة النبوية والنكاح عندنا على ما حكاه صاحب الجواهر [ ص: 145 ] من هذه القاعدة ويدل على ذلك أنه ورد بألفاظ مختلفة في الكتاب والسنة والأصل فيها عدم اعتبار الخصوص فيتعين العموم وهو المطلوب

( القاعدة الخامسة ) يحتاط الشرع في الخروج من الحرمة إلى الإباحة أكثر من الخروج من الإباحة إلى الحرمة لأن التحريم يعتمد المفاسد فيتعين الاحتياط له فلا يقدم على محل فيه المفسدة إلا بسبب قوي يدل على زوال تلك المفسدة أو يعارضها ويمنع الإباحة ما فيه مفسدة بأيسر الأسباب دفعا للمفسدة بحسب الإمكان ولذلك حرمت المرأة بمجرد عقد الأب ولا تحل المبتوتة إلا بعقد ووطء حلال وطلاق وانقضاء عدة من عقد الأول لأنه خروج عن حرمة إلى إباحة فلهذه القاعدة أوقعنا الطلاق بالكنايات وإن بعدت حتى أوقعه مالك بالتسبيح والتهليل وجميع الألفاظ إذا قصد بها الطلاق لأنه خروج من الحل فيكفي فيه أدنى سبب ولم يجز النكاح بكل لفظ بل بما فيه قرب من مقصود النكاح لأنه خروج من الحرمة إلى الحل وجوزنا البيع بجميع الصيغ والأفعال الدالة على الرضى بنقل المالك في العرضين لأن الأصل في السلع الإباحة حتى تملك بخلاف النساء الأصل فيهن التحريم حتى يعقد عليهن بملك أو نكاح ولعموم الحاجة للبيع ولقصوره في الاحتياط عن الفروج فإذا أحطت بهذه القواعد ظهر لك سبب اختلاف موارد الشرع في هذه الأحكام وسبب اختلاف العلماء ونشأت لك الفروق والحكم والتعاليل .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق السابع والخمسون والمائة بين قاعدة البيع توسع العلماء فيه حتى جوز مالك وأبو حنيفة وابن حنبل البيع بالمعاطاة وهي الأفعال دون شيء من الأقوال وزادوا على ذلك حتى قالوا : كل ما عده الناس بيعا فهو بيع نعم قال الشافعي لا تكفي المعاطاة دون قول وقاعدة النكاح ووقع التشديد فيها فقد اتفقوا على اشتراط الصيغ فيه حتى لا يعلم أنه وجد لأحد منهم قول بالمعاطاة فيه ألبتة )

وإنما اختلفوا هل ينعقد بغير لفظ التزويج والنكاح أو لا ينعقد إلا بخصوص لفظهما فذهب أبو حنيفة إلى الأول قال ابن العربي في القبس جوزه أبو حنيفة بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد قال الأصل ولم يستثن غير الإجارة والوصية والإحلال وجوزه بالعجمية وإن قدر على العربية وجوز الجواب من الزوج بقوله فعلت وذهب الشافعي وابن حنبل إلى الثاني فقالا لا ينعقد إلا بلفظ التزويج والنكاح كما في القبس لابن العربي واختلف النقل عن مالك فقال ابن رشد في المقدمات لا ينعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج دون غيرهما من ألفاظ العقود وفي الهبة قولان المنع كمذهب أبي حنيفة لأن الطلاق يقع بالصريح والكناية فكذلك النكاح ويرد عليه أن الهبة لا تنعقد بلفظ النكاح فكذلك النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة وأن النكاح مفتقر إلى الصريح ليقع الإشهاد عليه بل قال ابن عبد البر في الاستذكار أجمعوا على أنه لا ينعقد بلفظ الإحلال والإباحة فيقاس عليه الهبة وقال صاحب الجواهر ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد كالنكاح والتزويج والتمليك والبيع والهبة ونحوها قال القاضي أبو الحسن ولفظ الصدقة . وقال الأصحاب إن قصد بلفظ الإباحة النكاح صح ويضمن المهر فيكفي قول الزوج قبلت بعد الإيجاب من الولي ولا يشترط قبلت نكاحها ولو قال للأب في البكر أو بعد الإذن في الثيب زوجني فقال فعلت أو زوجتك فقال لا أرضى لزمه النكاح لاجتماع جزأي العقد فإن السؤال رضى في العادة أيضا وسبب اختلافهم أمران

( الأول ) تعارض الكتاب والسنة وذلك أن قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } وقوله تعالى { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها } لم يذكر فيهما إلا لفظ التزويج والنكاح وقوله صلى الله عليه وسلم { ملكتكها [ ص: 181 ] بما معك من القرآن } وزد بلفظ التمليك فاحتج بالحديث من قال ينعقد بغير لفظهما وقال الشافعي وابن حنبل لم يذكر في القرآن إلا لفظهما والحديث ورد بألفاظ مختلفة والقصة واحدة فيستحيل اجتماعها بل الواقع أحدها والراوي روى بالمعنى فلا حجة فيه

( الأمر الثاني ) تعارض قاعدتين

( القاعدة الأولى ) كل حكم شرعي لا بد له من سبب شرعي وإباحة المرأة حكم فله سبب يجب تلقيه من السمع فما لم يسمع من الشرع لا يكون سببا

( القاعدة الثانية ) الشرع قد ينصب خصوص الشيء سببا كالزوال لوجوب الظهر ورؤية الهلال لوجوب الصوم والقتل العمد العدوان للقصاص وقد ينصب مشتركا بين أشياء سببا ويلغي خصوصاتها كألفاظ الطلاق فإن المنصوب منها سببا ما دل على انطلاق المرأة من عصمة الرجل وألفاظ القذف فإن المنصوب منها سببا ما دل على نسبة المقذوف إلى الزنى أو اللواط وألفاظ الدخول في السلام فإن المنصوب منها سببا ما دل على مقصود الرسالة النبوية فعلى القاعدة الأولى اعتمد الشافعي وابن حنبل والمغيرة من أصحابنا وهو ظاهر ما نقله ابن رشد في المقدمات عن المذهب والنكاح عند أبي حنيفة وعندنا على ما حكاه صاحب الجواهر من القاعدة الثانية ويدل على ذلك أنه ورد بألفاظ مختلفة في الكتاب والسنة والأصل فيها عدم اعتبار الخصوص فيتعين العموم وهو المطلوب ويفرق بين قاعدة البيع وقاعدة النكاح على هذا بأربعة وجوه مبنية على أربع قواعد

( الوجه الأول ) أن النكاح لا بد فيه من لفظ يشهد عليه أنه تزويج لا زنى وسفاح بخلاف البيع لأن القاعدة أن الشهادة شرط في النكاح إما مقارنة للعقد كما قال الثلاثة أو قبل الدخول كما قال مالك وعلى التقديرين لا بد من لفظ إلخ وليس الإشهاد شرطا في البيع فلذا جوزوا فيه المناولة

( الوجه الثاني ) أن النكاح عظيم الخطر جليل المقدار لأنه سبب بقاء النوع الإنساني المكرم المفضل على جميع المخلوقات قال تعالى { ولقد كرمنا بني آدم } وسبب للعفاف الحاسم لمادة الفساد واختلاط الأنساب وسبب للمودة والمواصلة والسكون وغير ذلك من المصالح بخلاف البيع والقاعدة أن الشيء إذا عظم قدره شدد فيه وكثرت شروطه وبولغ في أبعاده إلا لسبب قوي تعظيما لشأنه ورفعا لقدره وهو شأن الملوك في العوائد ألا ترى أن المرأة النفيسة في مالها وجمالها ودينها ونسبها لا يوصل إليها إلا بالمهر الكثير والتوسل العظيم وأن المناصب الجليلة والرتب العلية كذلك في العادة وأن الذهب والفضة لما كان رءوس الأموال وقيم المتلفات شدد الشرع فيهما فاشتراط المساواة والتناجز وغير ذلك من الشروط التي لم يشترطها في البيع في سائر العروض وأن الطعام لما كان قوام بنية الإنسان منع الشرع بيعه نسيئة بعضه ببعض ومنع مالك بيعه قبل قبضه دون غيره من السلع فلذلك شدد الشرع في النكاح فاشترط الصداق والشهادة والولي وخصوص الألفاظ دون البيع

( والوجه الثالث ) أن الأصل في السلع الإباحة حتى تملك والأصل في النساء التحريم حتى يعقد عليهن بملك أو نكاح ( والقاعدة ) أن الشرع يحتاط في الخروج من الحرمة إلى الإباحة أكثر من الخروج من الإباحة إلى الحرمة لأن التحريم يعتمد المفاسد فيتعين الاحتياط له فلا يقدم على محل فيه المفسدة إلا بسبب قوي يدل على زوال تلك المفسدة أو يعارضها ويمنع الإباحة ما فيه مفسدة بأيسر الأسباب دفعا للمفسدة بحسب الإمكان ألا ترى أن المرأة حرمت بمجرد عقد الأب لأنه خروج عن إباحة إلى حرمة وأن المبتوتة لا تحل إلا بعقد ووطء حلال وطلاق وانقضاء عدة من عدد الأول لأنه خروج من حرمة [ ص: 182 ] إلى إباحة وأنا أوقعنا الطلاق بالكنايات وإن بعدت حتى أوقعه مالك بالتسبيح والتهليل وجميع الألفاظ إذا قصد بها الطلاق لأنه خروج من الحل إلى الحرمة فيكفي فيه أدنى سبب فلهذه القاعدة لم يجز النكاح بكل لفظ بل بما فيه قرب من مقصود النكاح لأنه خروج من الحرمة إلى الحل وجوزنا البيع بجميع الصيغ والأفعال الدالة على الرضى بنقل الملك في العوضين لأنه خروج من الحل إلى الحرمة فيكون موجبا لقصوره في الاحتياط عن الفروج

( الوجه الرابع ) عموم الحاجة إلى البيع لأنه لا غنى للإنسان عن مأكول ومشروب ولباس بحيث لا يخلو مكلف غالبا من بيع أو شراء بخلاف النكاح

( والقاعدة ) في الملة السمحة تخفيف في كل ما عمت به البلوى والتشديد فيما لم تعم البلوى به كما وضحت ذلك في رسالتي شمس الإشراق في حكم التعامل بالأوراق فإذا أحطت بهذه القواعد علما ظهر لك سبب اختلاف موارد الشرع في هذه الأحكام وسبب اختلاف العلماء ونشأت لك الفروق والحكم والتعاليل والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية