الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الباب السادس

[ في وقت القضاء ]

وأما متى يقضي ؟ فمنها ما يرجع إلى حال القاضي في نفسه ، ومنها ما يرجع إلى وقت إنفاذ الحكم وفصله ، ومنها ما يرجع إلى وقت توقيف المدعى فيه وإزالة اليد عنه إذا كان عينا .

فأما متى يقضي القاضي ؟ فإذا لم يكن مشغول النفس لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان " ، ومثل هذا عند مالك أن يكون عطشان أو جائعا أو خائفا أو غير ذلك من العوارض التي تعوقه عن الفهم ، لكن إذا قضى في حال من هذه الأحوال بالصواب ، فاتفقوا فيما أعلم على أنه ينفذ حكمه ، ويحتمل أن يقال : لا ينفذ فيما وقع عليه النص وهو الغضبان ; لأن النهي يدل على فساد المنهي عنه .

وأما متى ينفذ الحكم عليه فبعد ضرب الأجل والإعذار إليه ، ( ومعنى نفوذ هذا : هو أن يحق حجة المدعي أو يدحضها ) .

وهل له أن يسمع حجة بعد الحكم ؟ فيه اختلاف من قول مالك ، والأشهر أنه يسمع فيما كان حقا لله مثل الإحباس والعتق ولا يسمع في غير ذلك . وقيل : لا يسمع بعد نفوذ الحكم وهو الذي يسمى التعجيز ، قيل : لا يسمع منهما جميعا ، وقيل بالفرق بين المدعي والمدعى عليه ، وهو ما إذا أقر بالعجز .

وأما وقت التوقيف فهو عند الثبوت وقبل الإعذار ، وهو إذا لم يرد الذي استحق الشيء من يده أن يخاصم فله أن يرجع بثمنه على البائع ، وإن كان يحتاج في رجوعه به على البائع أن يوافقه عليه فيثبت شراءه منه إن أنكره ، أو يعترف له به إن أقره فللمستحق من يده أن يأخذ الشيء من المستحق ويترك قيمته بيد المستحق ، وقال الشافعي : يشتريه منه ، فإن عطب في يد المستحق فهو ضامن له .

وإن عطب في أثناء الحكم : ممن ضمانه ؟ اختلف في ذلك ، فقيل : إن عطب بعد الثبات فضمانه من المستحق ، وقيل : إنما يضمن المستحق بعد الحكم ، وأما بعد الثبت وقبل الحكم فهو من المستحق منه .

[ ص: 780 ] قال القاضي - رضي الله عنه - : وينبغي أن تعلم أن الأحكام الشرعية تنقسم قسمين : قسم يقضي به الحكام ، وجل ما ذكرناه في هذا الكتاب هو داخل في هذا القسم ، وقسم لا يقضي به الحكام ، وهذا أكثره هو داخل في المندوب إليه . وهذا الجنس من الأحكام هو مثل رد السلام وتشميت العاطس وغير ذلك مما يذكره الفقهاء في أواخر كتبهم التي يعرفونها بالجوامع .

ونحن فقد رأينا أن نذكر أيضا من هذا الجنس المشهور منه إن شاء الله تعالى . وما ينبغي قبل هذا أن تعلم أن السنن المشروعة العملية المقصود منها هو الفضائل النفسانية .

فمنها ما يرجع إلى تعظيم من يجب تعظيمه وشكر من يجب شكره ، وفي هذا الجنس تدخل العبادات ، وهذه هي السنن الكرامية .

ومنها ما يرجع إلى الفضيلة التي تسمى عفة وهذه صنفان : السنن الواردة في المطعم والمشرب ، والسنن الواردة في المناكح .

ومنها ما يرجع إلى طلب العدل والكف عن الجور . فهذه هي أجناس السنن التي تقتضي العدل في الأموال ، والتي تقتضي العدل في الأبدان ، وفي هذا الجنس يدخل القصاص والحروب والعقوبات ; لأن هذه كلها إنما يطلب بها العدل .

ومنها السنن الواردة في الأعراض .

ومنها السنن الواردة في جميع الأموال وتقويمها ، وهي التي يقصد بها طلب الفضيلة التي تسمى السخاء ، وتجنب الرذيلة التي تسمى البخل . والزكاة تدخل في هذا الباب من وجه ، وتدخل أيضا في باب الاشتراك في الأموال ، وكذلك الأمر في الصدقات .

ومنها سنن واردة في الاجتماع الذي هو شرط في حياة الإنسان وحفظ فضائله العملية والعلمية ، وهي المعبر عنها بالرياسة ، ولذلك لزم أيضا أن تكون سنن الأئمة والقوام بالدين .

ومن السنة المهمة في حين الاجتماع السنن الواردة في المحبة والبغضة والتعاون على إقامة هذه السنن ، وهو الذي يسمى : النهي عن المنكر والأمر بالمعروف ، وهي المحبة والبغضة ( أي : الدينية ) التي تكون إما من قبل الإخلال بهذه السنن ، وإما من قبل سوء المعتقد في الشريعة .

وأكثر ما يذكر الفقهاء في الجوامع من كتبهم ما شذ عن الأجناس الأربعة التي هي فضيلة العفة ، وفضيلة العدل ، وفضيلة الشجاعة ، وفضيلة السخاء ، والعبادة التي هي كالشروط في تثبيت هذه الفضائل .

كمل كتاب الأقضية ، وبكماله كمل جميع الديوان ، والحمد لله كثيرا على ذلك كما هو أهله .

التالي السابق


الخدمات العلمية