الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثم ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال يترادان الفضل في الرهن ، وفيه دليل : أن المقبوض بحكم الرهن يكون مضمونا ثم بيان هذا اللفظ أنه إذا رهن ثوبا قيمته عشرة بعشرة فهلك عند المرتهن سقط دينه فإن كانت قيمة الثوب خمسة يرجع المرتهن على الراهن بخمسة أخرى ، وهو مذهبنا أيضا ، وإن كانت قيمته خمسة عشر فالراهن يرجع على المرتهن بخمسة ، وهو مذهب علي رضي الله عنه ، وبه أخذ بعض الناس ، ولسنا نأخذ بهذا ، وإنما نأخذ بقول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما ، فإنهما قالا : إنه مضمون بالأقل من قيمته ، ومن الدين فإذا كانت القيمة أكثر فالمرتهن في الفضل أمين ، وهكذا روى محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنه أن المرتهن في الفضل أمين .

وحاصل الاختلاف فيه بين العلماء ( رحمهم الله ) على ثلاثة أقاويل فعندنا هو [ ص: 65 ] مضمون بالأقل من قيمته ، ومن الدين ، وعند شريح ( رحمه الله ) هو مضمون بالدين قلت قيمته أو كثرت ، فإنه قال الرهن بما فيه ، وإن كان خاتما من حديد بمائة درهم ، وفي إحدى روايتي علي رضي الله عنه : يترادان الفضل هذا بيان الاختلاف الذي كان بين المتقدمين رضي الله عنهم في الرهن ، إلى أن أحدث الشافعي ( رحمه الله ) قولا رابعا أنه أمانة ، ولا يسقط شيء من الدين بهلاكه ، واستدل في ذلك بحديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يغلق الرهن ، لصاحبه غنمه ، وعليه غرمه } " ، وفي رواية { : الرهن من راهنه الذي رهنه ، له غنمه وعليه غرمه } ، وزعم أن معنى قوله : صلى الله عليه وسلم " لا يغلق الرهن " لا يصير مضمونا بالدين فقد فسر ذلك بقوله : الرهن من راهنه الذي رهنه أي : من ضمان راهنه ، وقوله صلى الله عليه وسلم " وعليه غرمه " أي : عليه هلاكه ، فالغرم : عبارة عن الهلاك قال الله تعالى { : إنا لمغرمون } أي : هلكت علينا أموالنا ، والمعنى فيه : أن الرهن وثيقة بالدين فبهلاكه لا يسقط الدين كما لا يسقط بهلاك الصك وموت الشهود ، وهذا ; لأنه بعقد الوثيقة يزداد معنى الصيانة فلو قلنا : بأنه يسقط دين المرتهن بهلاكه كان ضد ما اقتضاه العقد ; لأن الحق به يصير بعرضة الهلاك ، وذلك ضد معنى الصيانة .

والدليل عليه : أن عين الرهن - ما زاد على قدر الدين - أمانة في يد المرتهن ، والقبض في الكل واحد ، وما هو موجب الرهن ، وهو الحبس ثابت في الكل ، فلا يجوز أن يثبت حكم الضمان بهذا القبض في البعض دون البعض .

والدليل عليه : أن عين الرهن تهلك على ذلك الراهن حتى لو كان عبدا فكفنه على الراهن ، ولو استحق وضمنه المرتهن يرجع بالضمان ، والدين جميعا على الراهن ، ولو كان قبضه قبض ضمان لم يرجع بالضمان عند الاستحقاق كالغاصب ، وعندكم إذا اشترى المرتهن المرهون من الراهن لا يصير قابضا بنفس الشراء ولو كان مضمونا عليه بالقبض لكان قبضه عن الشراء كقبض الغاصب ، والمقبوض بحكم الرهن الفاسد لا يكون مضمونا عندكم كرهن المشاع وغيره ، والفاسد معتبر بالجائز في حكم الضمان ، وليس من ضرورة ثبوت حق الحبس الضمان ، كالمستأجر بعد الفسخ محبوس عند المستأجر بالأجرة المعجلة ، بمنزلة المرهون حتى إذا مات الآجر كان المستأجر أحق به من سائر غرمائه ثم لم يكن مضمونا إذا هلك ، وكذلك زوائد الرهن عندكم .

والدليل على أنه أمانة : أن النفقة على الراهن دون المرتهن ، كما في الوديعة ، وحجتنا في ذلك ما أشرنا إليه من إجماع المتقدمين ( رضوان الله عليهم أجمعين ) فاتفاقهم على ثلاثة أقاويل يكون [ ص: 66 ] إجماعا منهم على أنه ليس فيه قول رابع ، لم يستدل بحديث عطاء { : أن رجلا رهن فرسا عند رجل بحق له فنفق الفرس عند المرتهن فاختصما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للمرتهن : ذهب حقك } ، ولا يجوز أن يقال ذهب حقك في الحبس ; لأن هذا مما لا يشكل ; ولأنه ذكر الحق منكرا في أول الحديث ثم أعاده معرفا ، فيكون المراد بالمعرف ما هو المراد بالمنكر قال الله تعالى { : كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول } .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم { : الرهن بما فيه ذهبت الرهان بما فيها } أي : بما فيها من الديون ، ولا حجة لهم في قوله صلى الله عليه وسلم { : لا يغلق الرهن } فإن أحدا من أهل اللغة لا يفهم منه هذا اللفظ ، بقي الضمان على المرتهن .

وذكر الكرخي أن أهل العلم من السلف ( رحمهم الله ) كطاوس وإبراهيم ، وغيرهما اتفقوا : أن المراد لا يحبس الرهن عند المرتهن احتباسا لا يمكن فكاكه بأن يصير مملوكا للمرتهن ، واستدلوا عليه بقول القائل :

وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا

يعني : احتبس قلب المحب عند الحبيب على وجه لا يمكن فكاكه ، وليس فيه ضمان ، ولا هلاك .

والدليل عليه : ما روي عن الزهري قال : كانوا في الجاهلية يرتهنون ، ويشترطون على الراهن إن لم يقض الدين إلى وقت كذا فالرهن مملوك للمرتهن فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : { لا يغلق الرهن } وسئل سعيد بن المسيب رضي الله عنه عن معنى هذا اللفظ فقيل : أهو قول الرجل إن لم يأت بالدين إلى وقت كذا فالرهن بيع لي في الدين ؟ فقال : نعم .

وقوله : صلى الله عليه وسلم { الرهن من راهنه الذي رهنه } يؤكد هذا المعنى أي : هو على ملك راهنه الذي رهنه لا يزول ملكه بهذا الشرط ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم { له غنمه ، وعليه غرمه } يعني في حال إبقائه هو مردود عليه لا يتملك غيره عليه ، أو أن يبيع بالدين فزاد الثمن على الدين فالزيادة له ، وإن انتقص فالنقصان عليه ، وبه نقول : والمعنى في المسألة : أن الرهن مقبوض للاستيفاء والمقبوض على وجه الشيء لا يكون كالمقبوض على حقيقته في حكم الضمان .

( ألا ترى ) أن المقبوض على سوم البيع يجعل كالمقبوض على جهة الاستيفاء ، وبيان الوصف أن عقد الرهن يختص بما يمكن استيفاء الدين منه ، وهو المال المتقوم الذي يقبل البيع في الدين ، ويختص بحق يمكن استيفاؤه من الرهن ، وهو الدين حتى لا يجوز الرهن بالأعيان ، ولا بالعقوبات من القصاص ، والحدود ، وتحقيق ما ذكرنا أن موجب العقد ثبوت يد الاستيفاء ، وهذه اليد [ ص: 67 ] في حقيقة الاستيفاء تثبت الملك ، والضمان فكذا فيها أيضا يثبت الضمان في عقد الرهن يقرره أن عند أبي حنيفة .

( رحمه الله ) استيفاء المستوفى يكون مضمونا على المستوفي ، وله على الموفي مثل ذلك فيصير قصاصا به فكذلك إذا قبضه رهنا ، وصار مضمونا عليه بهذه اليد فإذا هلك وجب على المرتهن من أولها فيصير المرتهن مستوفيا حقه ، ولهذا يثبت الضمان بقدر الدين ، وصفته ; لأن الاستيفاء به يتحقق ، وكان الراهن جعل مقدار الدين في وعاء وسلمه إلى رب الدين ليستوفي حقه منه فعند هلاكه في يده يتم استيفاؤه في مقدار حقه ، ولهذا كان الفضل أمانة عنده بمنزلة ما لو جعل خمسة عشر درهما في كيس ، ودفعه إلى صاحب الدين على أن يستوفي دينه منه عشرة فيكون أمينا في الزيادة ، ولهذا جعلت العين أمانة في يد المرتهن ; لأن الاستيفاء تحصل منه المالية دون العين ، والاستيفاء بالعين يكون استبدالا ، والمرتهن عندنا مستوف لا مستبدل ، وإنما يتحقق الاستيفاء بحبس الحق ، والمجانسة بين الأموال باعتبار صفة المالية دون العين فكان هو أمينا في العين ، والعين كالكيس في حقيقة الاستيفاء ، وبهذا التقرير اتضح الجواب عما قال ; لأن معنى الصيانة يتحقق إذا صار المرتهن بهلاك الرهن مستوفيا حقه ، وإنما ينعدم ذلك قلنا يتوى بينه ، والاستيفاء ليس مأتوا للحق ، ثم موجب العقد ثبوت يد الاستيفاء ، وفيه معنى الصيانة

التالي السابق


الخدمات العلمية