الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 36 ] فصل وفي الإخلاص ، والصدق ، وإحضار النية في جميع الأعمال البارزة ، والخفية قال الله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } ، وقال تعالى : { فاعبد الله مخلصا } ، وقال تعالى { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله } ،

                                      وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ، ورسوله ، فهجرته إلى الله ، ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه } ) حديث صحيح متفق على صحته مجمع على عظم موقعه ، وجلالته ، وهو إحدى قواعد الإيمان ، وأول دعائمه ، وآكد الأركان . قال الشافعي رحمه الله : يدخل هذا الحديث في سبعين بابا من الفقه ، وقال أيضا : هو ثلث العلم ، وكذا قاله أيضا غيره ، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام ، وقد اختلف في عدها فقيل : ثلاثة ، وقيل : أربعة ، وقيل : اثنان ، وقيل : حديث ، وقد جمعتها كلها في جزء الأربعين فبلغت أربعين حديثا ، لا يستغني متدين عن معرفتها ; لأنها كلها صحيحة جامعة قواعد الإسلام ، في الأصول ، والفروع ، والزهد ، والآداب ، ومكارم الأخلاق ، وغير ذلك ، وإنما بدأت بهذا الحديث تأسيا بأئمتنا ، ومتقدمي أسلافنا من العلماء رضي الله عنهم ، وقد ابتدأ به إمام أهل الحديث بلا مدافعة أبو عبد الله البخاري في صحيحه ، ونقل جماعة أن السلف كانوا يستحبون افتتاح الكتب بهذا الحديث تنبيها للطالب على تصحيح النية ، وإرادته وجه الله تعالى بجميع أعماله البارزة ، والخفية .

                                      وروينا عن الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله قال : لو صنفت كتابا بدأت في أول كل باب منه بهذا الحديث ، وروينا عنه أيضا [ ص: 37 ] قال : من أراد أن يصنف كتابا فليبدأ بهذا الحديث ، وقال الإمام أبو سليمان محمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي الشافعي الإمام في ( كتابه المعالم ) رحمه الله تعالى كان المتقدمون من شيوخنا يستحبون تقديم حديث : { الأعمال بالنيات } أمام كل شيء ينشأ ، ويبتدأ من أمور الدين . لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها ، وهذه أحرف من كلام العارفين في الإخلاص ، والصدق .

                                      قال أبو العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : " إنما يعطى الرجل على قدر نيته " ، وقال أبو محمد سهل بن عبد الله التستري رحمه الله : نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا : أن تكون حركاته ، وسكونه في سره ، وعلانيته لله تعالى وحده ، لا يمازجه شيء ، لا نفس ، ولا هوى ، ولا دنيا ، وقال السري رحمه الله : لا تعمل للناس شيئا ، ولا تترك لهم شيئا ، ولا تعط لهم شيئا ، ولا تكشف لهم شيئا ، وروينا عن حبيب بن أبي ثابت التابعي رحمه الله أنه قيل له : حدثنا فقال : حتى تجيء النية ، وعن أبي عبد الله سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله قال : ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي إنها تتقلب علي ، وروينا عن الأستاذ أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري رحمه الله في رسالته المشهورة قال : الإخلاص إفراد الحق في الطاعة بالقصد ، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى ، دون شيء آخر من تصنع لمخلوق ، أو اكتساب محمدة عند الناس ، أو محبة مدح من الخلق ، أو شيء سوى التقرب إلى الله تعالى . قال : ويصح أن يقال الإخلاص تصفية العقل عن ملاحظة الخلق ، والصدق التنقي عن مطالعة النفس . فالمخلص لا رياء له ، والصادق لا إعجاب له .

                                      وعن أبي يعقوب السوسي رحمه الله قال : متى شهدوا في إخلاصهم الإخلاص ، احتاج إخلاصهم إلى إخلاص ، وعن ذي النون رحمه الله قال : ثلاثة من علامات الإخلاص : استواء المدح ، والذم من العامة ، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال ، واقتضاء ثواب العمل في الآخرة ، وعن أبي عثمان رحمه الله قال : الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق ، وعن حذيفة المرعشي رحمه الله قال : الإخلاص أن تستوي أفعال العبد في الظاهر ، والباطن .

                                      [ ص: 38 ] وعن أبي علي الفضيل بن عياض رحمه الله قال : ترك العمل لأجل الناس رياء ، والعمل لأجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما . وعن رويم رحمه الله قال : الإخلاص أن لا يريد على عمله عوضا من الدارين ، ولا حظا من الملكين ، وعن يوسف بن الحسين رحمه الله قال : أعز شيء في الدنيا الإخلاص ، وعن أبي عثمان قال : إخلاص العوام ما لا يكون للنفس فيه حظ ، وإخلاص الخواص ما يجري عليهم لا بهم ، فتبدو منهم الطاعات ، وهم عنها بمعزل ، ولا يقع لهم عليها رؤية ، ولا بها اعتداد .

                                      وأما الصدق فقال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } قال القشيري : الصدق عماد الأمر ، وبه تمامه ، وفيه نظامه ، وأقله استواء السر ، والعلانية ، وروينا عن سهل بن عبد الله التستري قال : لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره ، وعن ذي النون رحمه الله قال : الصدق سيف الله ما وضع على شيء إلا قطعه ، وعن الحارث بن أسد المحاسبي بضم الميم رحمه الله قال : الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه ، ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله ، ولا يكره اطلاعهم على السيئ من عمله ; لأن كراهته ذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم ، وليس هذا من أخلاق الصديقين ، وعن أبي القاسم الجنيد بن محمد رحمه الله قال : الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة ، والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة .

                                      قلت : معناه أن الصادق يدور مع الحق حيث دار فإذا كان الفضل الشرعي في الصلاة مثلا صلى ، وإذا كان في مجالسة العلماء ، والصالحين ، والضيفان ، والعيال ، وقضاء حاجة مسلم ، وجبر قلب مكسور ، ونحو ذلك فعل ذلك الأفضل ، وترك عادته ، وكذلك الصوم ، والقراءة ، والذكر ، والأكل ، والشرب ، والجد ، والمزح ، والاختلاط ، والاعتزال ، والتنعم ، والابتذال ، ونحوها ، فحيث رأى الفضيلة الشرعية في شيء من هذا فعله ، ولا يرتبط بعادة ، ولا بعبادة مخصوصة ، كما يفعله المرائي ، وقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحوال في صلاته ، وصيامه ، وأوراده ، وأكله ، وشربه ، ولبسه ، وركوبه ، ومعاشرة أهله ، وجده ، ومزاحه ، وسروره ، وغضبه ، وإغلاظه في إنكار المنكر ، ورفقه فيه ، وعقوبته مستحقي التعزير ، وصفحه عنهم ، وغير ذلك بحسب الإمكان ، والأفضل في ذلك الوقت ، والحال .

                                      [ ص: 39 ] ولا شك في اختلاف أحوال الشيء في الأفضلية ، فإن الصوم حرام يوم العيد ، واجب قبله ، مسنون بعده ، والصلاة محبوبة في معظم الأوقات ، وتكره في أوقات ، وأحوال ، كمدافعة الأخبثين ، وقراءة القرآن محبوبة ، وتكره في الركوع ، والسجود ، وغير ذلك ، وكذلك تحسين اللباس يوم الجمعة ، والعيد ، وخلافه يوم الاستسقاء ، وكذلك ما أشبه هذه الأمثلة . وهذه نبذة يسيرة ترشد الموفق إلى السداد ، وتحمله على الاستقامة ، وسلوك طريق الرشاد .

                                      التالي السابق


                                      الخدمات العلمية