الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين (10) قوم فرعون ألا يتقون (11) قال رب إني أخاف أن يكذبون (12) ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون (13) ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون (14) قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون (15) فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين (16) أن أرسل معنا بني إسرائيل (17) قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين (18) وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين (19) قال فعلتها إذا وأنا من الضالين (20) ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين (21) وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل (22) قال فرعون وما رب العالمين (23) قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (24) قال لمن حوله ألا تستمعون (25) قال ربكم ورب آبائكم الأولين (26) قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون (27) قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون (28) قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين (29) قال أولو جئتك بشيء مبين (30) قال فأت به إن كنت من الصادقين (31) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (32) ونزع يده فإذا [ ص: 2587 ] هي بيضاء للناظرين (33) قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم (34) يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون (35) قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين (36) يأتوك بكل سحار عليم (37) فجمع السحرة لميقات يوم معلوم (38) وقيل للناس هل أنتم مجتمعون (39) لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين (40) فلما جاء السحرة قالوا .لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين (41) قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين (42) قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون (43) فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون (44) فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون (45) فألقي السحرة ساجدين (46) قالوا آمنا برب العالمين (47) رب موسى وهارون (48) قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين (49) قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون (50) إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين (51) وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون (52) فأرسل فرعون في المدائن حاشرين (53) إن هؤلاء لشرذمة قليلون (54) وإنهم لنا لغائظون (55) وإنا لجميع حاذرون (56) فأخرجناهم من جنات وعيون (57) وكنوز ومقام كريم (58) كذلك وأورثناها بني إسرائيل (59) فأتبعوهم مشرقين (60) فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون (61) قال كلا إن معي ربي سيهدين (62) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم (63) وأزلفنا ثم الآخرين (64) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين (65) ثم أغرقنا الآخرين (66) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (67) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (68)

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الحلقة من قصة موسى - عليه السلام - تجيء في هذه السورة متناسقة مع موضوع السورة، ومع اتجاهها إلى بيان عاقبة المكذبين بالرسالة; وإلى طمأنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعزيته عما يلقاه من [ ص: 2588 ] إعراض المشركين وتكذيبهم وإلى رعاية الله لدعوته والمؤمنين بها ولو كانوا مجردين من القوة وأعداؤهم أقوياء جبارون في الأرض مسلطون عليهم بالأذى والتنكيل - وهو الموقف الذي كان فيه المسلمون بمكة عند نزول هذه السورة - وقد كان القصص إحدى وسائل التربية القرآنية في القرآن الكريم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد وردت حلقات من قصة موسى - عليه السلام - حتى الآن في سورة البقرة، وسورة المائدة، وسورة الأعراف، وسورة يونس، وسورة الإسراء، وسورة الكهف، وسورة طه. عدا إشارات إليها في سور أخرى.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي كل مرة كانت الحلقات التي تعرض منها أو الإشارات متناسقة مع موضوع السورة، أو السياق الذي تعرض فيه، على نحو ما هي في هذه السورة وكانت تشارك في تصوير الموضوع الذي يهدف إليه السياق .

                                                                                                                                                                                                                                      والحلقة المعروضة هنا هي حلقة الرسالة والتكذيب وما كان من غرق فرعون وملئه جزاء على هذا التكذيب، وعقابا على ائتماره بموسى ومن معه من المؤمنين؛ ونجاة موسى وبني إسرائيل من كيد الظالمين، وفي هذا تصديق قول الله –سبحانه - في هذه السورة عن المشركين: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .. وقوله: فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الحلقة مقسمة إلى مشاهد استعراضية، بينها فجوات بمقدار ما يسدل الستار على المشهد، ثم يرفع عن المشهد الذي يليه، وهي ظاهرة فنية ملحوظة في طريقة العرض القرآنية للقصة .

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا سبعة مشاهد:أولها: مشهد النداء والبعثة، والوحي والمناجاة بين موسى - عليه السلام - وربه.وثانيها: مشهد مواجهة موسى لفرعون وملئه برسالته وآيتي العصا واليد البيضاء.وثالثها: مشهد التآمر وجمع السحرة وحشد الناس للمباراة الكبرى.ورابعها:مشهد السحرة بحضرة فرعون يطمئنون على الأجر والجزاء!.وخامسها: مشهد المباراة ذاته وإيمان السحرة وتهديد فرعون ووعيده.وسادسها: مشهد ذو شقين: الشق الأول: مشهد إيحاء الله لموسى أن يسري بعباده ليلا. والثاني: مشهد إرسال فرعون في المدائن حاشرين يجمعون الجنود لملاحقة بني إسرائيل.وسابعها: مشهد المواجهة أمام البحر ونهايته من انفلاق البحر وغرق الظالمين ونجاة المؤمنين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد عرضت هذه المشاهد في سورة الأعراف، وفي سورة يونس، وفي سورة طه. ولكنها عرضت في كل موضع من الجانب الذي يناسب ذلك الموضع، وبالطريقة التي تتفق مع اتجاهه، وكان التركيز فيها على نقط معينة هنا وهناك.

                                                                                                                                                                                                                                      ففي الأعراف مثلا بدأ بمشهد المواجهة بين موسى وفرعون مختصرا، ومر بمشهد السحرة ونهايته سريعا، بينما وسع في عرض مؤامرات فرعون وملئه بعد ذلك، وعرض آيات موسى مدة إقامته في مصر بعد المباراة قبل مشهد الغرق والنجاة، واستطرد بعد ذلك مع بني إسرائيل بعد مجاوزتهم البحر في حلقات كثيرة؛ واختصر هذا هنا فلم يشر إليه، بينما وسع في مشهد الجدال بين موسى وفرعون حول وحدانية الله –سبحانه - ووحيه إلى رسوله; وهو موضوع الجدل في هذه السورة بين المشركين والنبي - صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي يونس بدأ بمشهد المواجهة مختصرا لم يعرض فيه آيتي العصا واليد، واختصر كذلك في مشهد المباراة. بينما توسع هنا في كليهما.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي سورة طه توسع في مشهد المناجاة الأول بين موسى وربه، واستطرد بعد مشهدي المواجهة والمباراة [ ص: 2589 ] فصاحب بني إسرائيل في رحلتهم طويلا. ولم يجاوز هنا مشهد الغرق والنجاة.

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك لا نجد تكرارا في عرض القصة أبدا على كثرة ما عرضت في سور القرآن؛ لأن هذا التنويع في اختيار الحلقات التي تعرض، ومشاهد كل حلقة، والجانب الذي يختار من كل مشهد، وطريقة عرضه؛ كل أولئك يجعلها جديدة في كل موضع؛ متناسقة مع هذا الموضع.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية