الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 104 ] باب رهن الحيوان ) قال ( رحمه الله ) رهن الحيوان المملوك بالدين جائز ، بخلاف ما يقوله بعض العلماء ( رحمهم الله ) أن الحيوان عرضة للهلاك فهو بمنزلة ما يسرع إليه الفساد ، وما يسرع إليه الفساد ، كالخضر لا يجوز رهنه ، ودليلنا على جوازه قوله صلى الله عليه وسلم : الرهن مركوب ومحلوب ، ولأنه مال متقوم يجوز بيعه ، ويمكن استيفاء الدين من ماليته عند تعذر استيفائه من محل آخر ، فهو كسائر الأموال ، وما من شيء إلا وهو عرضة للفناء في وقته ثم علفه ، وطعام الرقيق على الراهن ; لأن وجوب النفقة على الملك بسبب ملك العين ، فالراهن بعد عقد الرهن مالك للعين ، كما كان قبله ، وفي كون الرهن في يد المرتهن منفعة للراهن فإنه يصير بهلاكه قاضيا لدينه ، فيكون بمنزلة الوديعة ، والمؤجر بخلاف المستعار ، والموصى بخدمته ; لأنه لا منفعة للمالك في كون العين في يد المستعير والموصى له ، وإنما تخلص المنفعة لهما ، فتكون المنفعة عليهما فلهذا لا يرجعان بضمان الاستحقاق بخلاف المرتهن ( توضيحه ) : أن الإعارة لا يتعلق بها اللزوم فيقال للمستعير : إن ثبت فأنفق عليه ، وانتفع به ، وإلا فرده ، والوصية بالعين ، وإن كان يتعلق بها اللزوم فلم يأت ذلك بإيجاب من الوارث فلا يلزمه نفقة في حال كونه ممنوعا من الانتفاع به وإثبات اليد عليها .

وأما الرهن فإنما يثبت للمرتهن فيه حق لازم بإيجاب الرهن ، فلا يكون ذلك مسقطا للنفقة عنه ، وإن كانت يده مقصورة عنه كالمستأجر ، وكذلك أجر الراعي فهو بمنزلة العلف ; لأنه إنما يلتزم بمقصود الراعي فيكون على المالك ، وعلى المرتهن أن يضمها إليه إما في منزله ، وإما في منزل يتكارى له ، وليس على الراهن من ذلك شيء ; لأن الحفظ على المرتهن ، ولا يتأتى حفظه إلا في منزل فمؤنته تلك تكون على المرتهن ، وهذا ; لأنه في الحفظ عامل لنفسه ; لأنه يقصد به إضجار الراهن ، ولأن موجب الرهن ثبوت يد الاستيفاء ، وما يكون موجب العقد ، فهو حق المرتهن وعن أبي يوسف ( رحمه الله ) قال : إن كان في منزل المرتهن سعة ، فالجواب كذلك ، وإن احتاج إلى أن يتكارى له منزلا ، فالكراء على الراهن ; لأن أجرة المسكن كالنفقة .

( ألا ترى ) أنه على الزوج كالنفقة وإن أصاب الرقيق جراحة أو مرض أو دبرت الدواب ، فإصلاح ذلك ، ودواؤه على المرتهن ; لأن المالية انتقصت بما اعترض ، وبحسب ذلك يسقط من دين المرتهن ببرء المعالجة إعادة ما كان سقط من الدين أو أشرف على السقوط ، وهو محض منفعة للمرتهن ، والمداواة [ ص: 105 ] لا تكون قياس النفقة .

( ألا ترى ) أن نفقة الزوجة على الزوج ، وأجرة الطبيب ، وثمن الدواء إذا مرضت عليها في مالها ، لا شيء على الزوج من ذلك ، وهذا إذا كانت قيمة الرهن والدين سواء ، فإن كان الدين أقل من القيمة فالمعالجة على الراهن والمرتهن بحساب ذلك ; لأن تقدر الدين من الرهن مضمون على المرتهن ، والزيادة على ذلك أمانة ، ومعالجة الأمانة على صاحبها ، وهذا ; لأن بالإصلاح ينتفع المرتهن في المضمون منه ، وفي الأمانة المنفعة للراهن وهو نظير الفداء من الجناية بقدر المضمون من الرهن والفداء على المرتهن ، وبقدر الأمانة على الراهن ، ونقصان السعر ، وزيادته لا يغير حكم الرهن ، والاعتبار بقيمته يوم رهن ; لأن تغير السعر ، لا يؤثر في العين ، إنما هو منوط برغائب الناس فيه ، وذلك يختلف باختلاف الأوقات ، والأمكنة فلا يكون مضمونا على المرتهن توضيحه : أن نقصان السعر غير معتبر في ضمان العقود ، كالمبيع ، فإن نقصان سعره لا يسقط شيئا من الثمن ولا يثبت الخيار للمشترى ، وكذلك ضمان المقبوض كالمغصوب ، فنقصان سعره في يد الغاصب لا يلزمه شيئا من الضمان ، وضمان الرهن لا بد أن يعتبر بأحد هذين الضامنين .

وعن زفر رحمه الله أن بقدر ما ينتقص من سعر المرهون يسقط من الدين وقاس ذلك بنقصان العين من حيث إن الضمان الثابت بالرهن باعتبار المالية دون العين فإن ضمان الاستيفاء ، والمالية ينتقص بنقصان السعر ، كما ينتقص بنقصان العين ، بخلاف سائر الضمانات ، فضمان الغصب ضمان العين ، ولهذا يملك العين به ، وكذلك ضمان البيع ، ونقصان السعر لا يؤثر في العين .

وإن ذهبت عين الدابة عند المرتهن ، وقيمتها مثل الدين سقط ربع الدين لحديث " زيد بن ثابت قال : في عين الدابة ربع قيمتها " يعني : إذا فقئت ، وهذا بخلاف عين الآدمي ، فإن بذهاب عينه يسقط نصف الدين ; لأن الانتفاع بالدواب من حيث الحمل والركوب ، وذلك يمسها ، وإنما يأتي ذلك بأن تمشي بقوائمها ، وتبصر بدلها على ذلك ، وحصة العينين من ذلك النصف ، فبفوات أحدهما يذهب الربع .

وأما البصر في الآدمي فمقصود بنفسه ، والبطش كذلك ، والمشي كذلك ، فيجعل كل جنس بمنزلة النفس ، فبذهاب إحدى العينين يجعل نصف النفس كالفائت حكما لهذا المعنى ، ولبن الناقة رهن معها ، وكذلك أصواف الغنم ، وأسمانها ، وأولادها ، وثمرة الأشجار ، وما ينبت من الأشجار في أرض الرهن رهن ; لأن هذه زيادة مستولدة من العين ، بخلاف ما على الأرض ، والدار تؤاجر ; لأن ذلك ليس بمتولد من غير الرهن فلا يثبت فيه حكم الرهن ، وإن هلكت هذه الزيادة لم يسقط شيء من الدين لانعدام [ ص: 106 ] السبب الموجب للضمان فيها ، وهو القبض مقصودا ثم لا خلاف أن المرتهن لا يملك الانتفاع بالرهن بدون إذن الراهن لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قرض جر منفعة ، ولو تمكن من الانتفاع أدى إلى ذلك ولأن المنفعة إنما تملك بملك الأصل ، والأصل مملوك للراهن فالمنفعة تكون على ملكه لا يستوفيها غيره إلا بإيجابها له ، وهو بعقد الرهن أوجب ملك اليد للمرتهن لا ملك المنفعة ، فكان ماله في الانتفاع بعد عقد الرهن كما كان قبله ، وكذلك الراهن لا ينتفع بالمرهون بغير إذن المرتهن عندنا وقال الشافعي ( رحمه الله ) فيما يمكنه الانتفاع به مع بقاء عينه : للراهن أن ينتفع به بدون إذن المرتهن ، والمسألة في الحقيقة بناء على الأصل الذي بينا : أن عندنا دوام يد المرتهن يوجب عقد الرهن ، والانتفاع به يفوت هذا الواجب ; لأنه يعيده إلى يده لينتفع به ، وعنده يوجب الرهن حق المطالبة بالبيع في الدين عند حلول الأجل ، وذلك لا يفوت بانتفاع الراهن به ثم الحجة له في المسألة حديث أبي هريرة { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : المرهون مركوب ، ومحلوب ، وعلى من يركبه ، ويحلبه نفقته } .

ولا شك أن النفقة على الراهن فعرفنا أنه مركوب ومحلوب للراهن ، والمعنى فيه : أن عقد الرهن لا يزيل الملك في الحال ولا في ثاني الحال ، ولكن يوجب للمرتهن حقا ، فكل تصرف من الراهن يقدره يبطل حق المرتهن ، فهو باطل ، كالبيع ، والراهن من غيره ، وكل تصرف لا يؤدي إلى إبطال حق المرتهن فالراهن يملكه باعتبار ملكه ، وهذا كالنكاح ، فإنه لا يزيل ملك المولى عن الأمة ، ولكن يوجب للزوج منها حقا ، فكل تصرف يؤدي إلى إبطال حقه كالوطء ، والتزوج من الغير يمنع المولى منه ، وكل تصرف لا يؤدي إلى إبطال حق الزوج ، كالبيع ، والهبة لا يمنع المولى منه ، والاستيلاد لا يزيل ملك المولى ، ويوجب لها حقا ، وكل تصرف يؤدي إلى إبطال حق لها ، كالبيع يمنع المولى منه ، وكل تصرف لا يؤدي إلى إبطال حقها كالوطء ، والتزويج لا يمنع المولى منه ، ثم الانتفاع لا يؤدي إلى إبطال حق المرتهن بدليل أنه لو انتفع به بإذن المرتهن بقي عقد الرهن ، وحق المرتهن ، ولو كان هذا مبطلا حقه لكان يبطل حقه عن العين ، وإن حصل بإذنه كالبيع ، ولأن الرهن وثيقة بالدين ، فلا يمنع المالك من الانتفاع بالملك ، كالكتابة .

والدليل عليه : أن الراهن أحق ببدل المنفعة ، وهو الكسب ، والغلة ، فذلك دليل على أنه أحق بالمنفعة أيضا ، وعقد الرهن عقد مشروع ، وبالإجماع المرتهن لا يتمكن من الانتفاع به فلو قلنا يمتنع على الراهن الانتفاع به لتعطلت العين عن الانتفاع بسبب هذا العقد ، وذلك مشبه تسييب أهل الجاهلية ، فيكون خلاف المشروع إلا أنه [ ص: 107 ] إنما ينتفع بالرهن إذا كان الدين مؤجلا .

وأما إذا كان الدين حالا فللمرتهن أن يمنعه عن ذلك لاستحقاق المطالبة ببيعه في دينه في المال ، وهو كالبيع فإن البائع يمنع المشتري من الانتفاع به إذا كان الثمن حالا ، ولا يمنعه إذا كان الثمن مؤجلا واختلف أصحاب الشافعي ( رحمهم الله ) في الإجارة فمنهم من يقول للراهن أن يؤاجره ، كما له أن ينتفع به بنفسه ، ومنهم من يقول ليس له ذلك ; لأن ذلك مبطل لحق المرتهن ، بدليل أنه لو فعله بإذن المرتهن بطل الرهن ،

التالي السابق


الخدمات العلمية