الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 509 ] الفصل الأول في الوقف على الكلمة الصحيحة الآخر . وفيه :

تقدم أن الكلمة الصحيحة الآخر إما أن يكون آخرها ساكنا في الحالين . وإما أن يكون متحركا في الوصل وعرض عليه السكون للوقف . فإن كان آخرها ساكنا في الحالين نحو فلا تنهر فليس فيه إلا الوقف بالسكون كالوصل كما سيأتي . وإن كان آخرها متحركا وعرض عليه السكون للوقف نحو والفجر فالقراء يقفون عليه بخمسة أوجه في الغالب وهي : السكون المحض والروم والإشمام والحذف والإبدال ولكل من هذه الأوجه الخمسة كلام خاص نوضحه فيما يلي :

الكلام على الوقف بالسكون المحض وما يجوز فيه

السكون المحض هو الخالص من الروم والإشمام ويقال له السكون المجرد أي المجرد من الروم والإشمام أيضا وسواء أكان محضا أم مجردا فهو عبارة عن عزل الحركة عن الحرف الموقوف عليه فيسكن حينئذ ضرورة والسكون هو الأصل في الوقف لما تقدم من أن الوقف معناه " الكف " والقارئ بوقفه على الكلمة يكون قد كف عن الإتيان بالحركة في الحرف الأخير منها والتزم فيه السكون . ولأنه في الغالب يطلب في وقفه الاستراحة وسلب الحركة أبلغ في تحصيلها ولأن الوقف ضد الابتداء والحركة ضد السكون فكما اختص الابتداء بالحركة اختص الوقف بالسكون ومن ثم لا يجوز بحال الوقف بالحركة كاملة ومن وقف [ ص: 510 ] بكمالها فقد خالف وحاد عن الصواب وخرج عن منهاج القراءة .

هذا : والوقف بالسكون المحض يكون في كل من المرفوع والمجرور والمنصوب في المعرب وفي كل من المضموم والمكسور والمفتوح في المبني . ويستوي في ذلك المخفف والمشدد والمهموز المحقق والمنون إلا ما كان منه في الاسم المنصوب نحو حوبا كبيرا أو في الاسم المقصور مطلقا نحو " عمى " في قوله تعالى : وهو عليهم عمى كما يستوي أيضا سكون ما قبل الحرف الأخير الموقوف عليه أو تحركه نحو " نعبد وقبل وبعد " في نحو قوله تعالى : إياك نعبد وقوله عز شأنه : لله الأمر من قبل ومن بعد وقد تقدمت الأمثلة لهذا كله بما فيه الكفاية عند الكلام على الوقف على العارض للسكون مطلقا في باب المد والقصر فارجع إليه إن شئت .

الكلام على الوقف بالروم وما يجوز فيه

الروم معناه في اللغة الطلب وفي الاصطلاح هو تضعيف الصوت بالحركة حتى يذهب بذلك التضعيف معظم صوتها وقال بعضهم هو الإتيان ببعض الحركة وقدر العلماء تضعيف الصوت بالحركة أو الإتيان ببعضها بالثلث أي أن المحذوف من الحركة أكثر من الثابت في حالة الروم ومن ثم ضعف صوتها لقصر زمنها [ ص: 511 ] فيسمعها القريب المصغي ولو كان أعمى دون البعيد ويكون الوقف بالروم في المرفوع والمجرور من المعرب وفي المضموم والمكسور من المبني سواء أكان الحرف الموقوف عليه مخففا أم مشددا أم مهموزا أم غير مهموز منونا أم غير منون ونعني بالمنون هنا ألا يكون منصوبا كسميعا وألا يكون في الاسم المقصور كهدى فإن التنوين في هذين يبدل ألفا في الوقف كما سيأتي بيانه في قسم الإبدال . وسواء سكن ما قبل الحرف الموقوف عليه كالأمر أم تحرك كالبشر وقد تقدمت الأمثلة لذلك مستوفاة عند الكلام على العارض للسكون في باب المد والقصر فراجع .

هذا : ولا يكون الوقف بالروم في المنصوب ولا في المفتوح .

ووجهه : خفة الفتحة وخفاؤها فإذا خرج بعضها حالة الروم خرج سائرها وذلك لأنها لا تقبل التبعيض بخلاف الضمة والكسرة فإنهما تقبلانه لثقلهما ولا بد من حذف التنوين من المنون حال الوقف بالروم كما مر .

وقد أشار إلى حقيقة الروم وما يجري فيه الإمام ابن بري في الدرر بقوله رحمه الله :


فالروم إضعافك صوت الحركه من غير أن يذهب رأسا صوتكه     يكون في المرفوع والمجرور
معا وفي المضموم والمكسور [ ص: 512 ]     ولا يرى في النصب للقراء
والفتح للخفة والخفاء

ا هـ

الكلام على الوقف بالإشمام وما يجوز فيه

والإشمام في عرف القراءة عبارة عن ضم الشفتين من غير صوت بعد النطق بالحرف الأخير ساكنا إشارة إلى الضم ولا بد من إبقاء فرجة " أي انفتاح " بين الشفتين لإخراج النفس وضم الشفتين للإشمام يكون عقب مسكون الحرف الأخير من غير تراخ فإن وقع التراخي فهو إسكان محض لا إشمام معه . وهذا ما أشار إليه إمامنا الشاطبي رحمه الله تعالى في الشاطبية بقوله :


والاشمام إطباق الشفاه بعيد ما     يسكن لا صوت هناك فيصحلا

ا هـ

والإشمام يرى بالعين ولا يسمع بالأذن ولهذا لا يأخذه الأعمى عن الأعمى بل يأخذه عن المبصر ليريه كيفيته بخلاف الروم فإن الأعمى يدركه من غيره بحاسة السمع سواء أكان هذا الغير بصيرا أم ضريرا .

هذا : والإشمام يكون في المرفوع من المعرب وفي المضموم من المبني . والأمثلة غير خفية لتقدمها في " باب المد والقصر " في فصل العارض للسكون مطلقا فارجع إليه إن شئت . وإنما جاز الإشمام في المرفوع والمضموم دون غيرهما من الحركات لأنه المناسب لحركة الضمة لانضمام الشفتين عند النطق بها ولم يجز في المجرور والمنصوب والمكسور والمفتوح لخروج الفتحة بانفتاح الضم والكسرة بانخفاضه ولهذا تعسر الإتيان بالإشمام لما تقدم من أنه ضم الشفتين ولأن الإشمام في المفتوح والمكسور يوهم حركة الضم فيهما في الوصل بينما هما ليسا كذلك وهذا هو وجه المنع هنا فاحفظه .

[ ص: 513 ] وقد أشار إلى صفة الإشمام وما يجري فيه الإمام ابن بري في الدرر بقوله رحمه الله :


وصفة الإشمام إطباق الشفاه     بعد السكون والضرير لا يراه
من غير صوت عنده مسموع     يكون في المضموم والمرفوع

ا هـ

وما تقدم ذكره من منع الوقف بالحركة كاملة ومن جواز الوقف بالأوجه الثلاثة التي هي السكون المحض والروم والإشمام بالشروط المتقدمة ينطوي تحت قول الحافظ ابن الجزري في المقدمة الجزرية :


وحاذر الوقف بكل الحركه     إلا إذا رمت فبعض حركه
إلا بفتح أو بنصب وأشم     إشارة بالضم في رفع وضم

ا هـ

هذا : وباعتبار ما تقدم من الوقف بالأوجه الثلاثة ينقسم الموقوف عليه إلى ثلاثة أقسام :

أولها : ما يجوز فيه الوقف بالأوجه الثلاثة التي هي الوقف بالسكون المحض والروم والإشمام .

ثانيها : ما يجوز فيه الوقف بالسكون المحض والروم ولا يجوز فيه الإشمام .

ثالثها : ما يجوز فيه الوقف بالسكون المحض فقط ولا يجوز فيه روم ولا إشمام .

أما القسم الأول : وهو ما يوقف عليه بكل من السكون المحض والروم والإشمام فهو ما كان متحركا في الوصل بالرفع نحو " الرحيم ويقبض ويبصط " في قوله تعالى : لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وقوله تعالى : والله يقبض ويبسط أو بالضم نحو " قبل وبعد وحيث ويا سماء " في قوله تعالى : لله الأمر من قبل ومن بعد وقوله سبحانه : ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام [ ص: 514 ] وقوله جل شأنه : ويا سماء أقلعي

وأما القسم الثاني : وهو ما يوقف عليه بالسكون المحض أو بالروم ولا يجوز فيه الإشمام فهو ما كان متحركا في الوصل بالجر نحو " حميد ، من العلم ، بالوحي " في قوله تعالى : تنـزيل من حكيم حميد وقوله سبحانه : ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم وقوله جل وعلا : قل إنما أنذركم بالوحي أو بالكسر نحو " هؤلاء وهذان " في قوله تعالى : ها أنتم هؤلاء وقوله تعالى : إن هذان لساحران

وأما القسم الثالث : وهو ما يوقف عليه بالسكون المحض فقط ولا يجوز فيه روم ولا إشمام فينحصر في خمسة أنواع وهي :

النوع الأول : هاء التأنيث وهي قسمان : قسم رسم بالهاء المربوطة " كالصلاة والزكاة والجنة والمغفرة " في قوله تعالى : ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وقوله سبحانه : والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه فهذا ونحوه يوقف عليه بالسكون المحض بالإجماع ولا يدخله روم ولا إشمام .

[ ص: 515 ] وقسم رسم بالتاء المفتوحة وقد تقدم الكلام عليه في بابه . وهذا يوقف عليه بالسكون المحض فقط لمن مذهبه الوقف عليه بالهاء المربوطة كابن كثير وأما من وقف عليه بالتاء المفتوحة تبعا للرسم كحفص عن عاصم فيقف بالأوجه الثلاثة السكون المحض والروم والإشمام وهذا في المرفوع منه نحو " بقيت " في قوله تعالى : بقيت الله خير لكم وبالسكون المحض والروم في المجرور منه نحو " رحمت " في قوله تعالى : فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها وبالسكون المحض فقط في المنصوب منه نحو " نعمت " في قوله تعالى : يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم

النوع الثاني : ميم الجمع في قراءة من وصلها بواو لفظية في الوصل كقوله تعالى : وينصركم عليهم

أما في قراءة من أسكنها كحفص فهي عنده من النوع الساكن في الحالين الآتي بعد .

النوع الثالث : عارض الشكل وهو ما كان محركا في الوصل بحركة عارضة إما للنقل نحو اللام من قوله تعالى : قل أوحي في قراءة من نقل الحركة إلى الساكن قبلها كورش . وإما للتخلص من التقاء الساكنين كالراء من نحو قوله تعالى : أن أنذر الناس ومنه ميم الجمع قبل الساكن في نحو قوله تعالى : وتقطعت بهم الأسباب وقوله جل شأنه : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون وقد تقدم الكلام مستوفيا على هذا النوع كما تقدم وجه منع الروم والإشمام فيه وقفا عند الكلام على العارض للسكون غير المسبوق بحرف المد [ ص: 516 ] واللين فراجعه إن شئت .

وقد أشار إلى هذه الأنواع الثلاثة وحكمها الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في الشاطبية بقوله :


وفي هاء تأنيث وميم الجميع قل     وعارض شكل لم يكونا ليدخلا

ا هـ

النوع الرابع : ما كان آخره ساكنا في الوصل والوقف نحو " فأنذر فكبر فطهر فاهجر " في قوله جل وعلا : يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ومنه ميم الجمع في قراءة من أسكنها كما مر آنفا .

النوع الخامس : ما كان متحركا في الوصل بالنصب في غير المنون نحو " المستقيم والخبء " أو بالفتح نحو " لا ريب - للمتقين - وتب " في قوله تعالى : اهدنا الصراط المستقيم ونحوه وقوله تعالى : يخرج الخبء في السماوات والأرض وقوله سبحانه : ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين وقوله عز وجل : تبت يدا أبي لهب وتب

أما المنون المنصوب فسيأتي حكمه عند الكلام على وجه الوقف بالإبدال .

وقد تقدم مزيد بيان من هذه الأنواع في فصل العارض للسكون مطلقا في باب المد والقصر كما سبق هناك ما يجوز في هاء الضمير وقفا من حيث جواز الوقف بالروم والإشمام وفاقا وخلافا فارجع إليه إن شئت . ولنرجع إلى ذكر بقية الأوجه الخمسة التي يقف بها القراء غالبا فنقول وبالله التوفيق ومنه نستمد العون .

الكلام على الوقف بوجه الحذف وما يجري فيه

الوقف بوجه الحذف يجري في أربعة مواضع :

أولها : التنوين من المرفوع والمجرور نحو " كريم ومكنون " في قوله تعالى : [ ص: 517 ] إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون

ثانيها : صلة هاء الضمير واوا كانت أو ياء نحو " ربه وبه " في قوله تعالى : بلى إن ربه كان به بصيرا

ثالثها : صلة ميم الجمع عند من قرأ بصلتها نحو قوله تبارك وتعالى : عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم

رابعها : الياءات الزوائد عند من أثبتها في الوصل فقط نحو " أكرمن وأهانن " في قوله تعالى : فيقول ربي أكرمن وقوله جل وعلا : فيقول ربي أهانن فإذا حذفت هذه الحروف كلها سكن الحرف الذي قبل المحذوف ووقف عليه بالسكون .

الكلام على الوقف بوجه الإبدال وما يجري فيه

الوقف بوجه الإبدال يجري في شيئين اثنين :

الشيء الأول : ويشمل ثلاثة أنواع :

أولها : التنوين في الاسم المنصوب سواء رسمت الألف فيه أم لم ترسم .

فالأول : نحو " وكيلا " في نحو قوله تعالى : وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا

والثاني : نحو " دعاء ونداء " في قوله تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء [ ص: 518 ] وما كان على هذا النحو .

ثانيها : التنوين في الاسم المقصور مطلقا سواء أكان مرفوعا أم مجرورا أم منصوبا نحو " عمى ومصفى وغزى " في قوله تعالى : وهو عليهم عمى وقوله سبحانه : وأنهار من عسل مصفى وقوله جل وعلا : أو كانوا غزى وما أشبه ذلك .

ثالثها : لفظ " إذا " المنون نحو قوله تعالى : فإذا لا يؤتون الناس نقيرا وقوله سبحانه : إذا لأذقناك ضعف الحياة

فكل هذه الأنواع وما شاكلها يبدل فيها التنوين ألفا في الوقف . ومثلها في ذلك إبدال نون التوكيد الخفيفة بعد الفتح ألفا لدى الوقف في موضعين اثنين في التنزيل بالإجماع وهما قوله تعالى : وليكونا من الصاغرين وقوله سبحانه : لنسفعا بالناصية

الشيء الثاني تاء التأنيث المتصلة بالاسم المفرد كما في قوله تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة فتبدل هذه التاء هاء لدى الوقف فإن كانت منونة نحو قوله تعالى : وتلك نعمة حذف تنوينها وأبدلت هاء كذلك لدى الوقف وهذا يرجع إلى الوقف بالسكون فتأمل وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية