الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الأحداث بعد إدريس

استخلف إدريس ولده متوشلخ على أمر الله ، وأوصاه قبل أن يرفع ، وكان أول من ركب البحر ، وملك بطريق الطاعة لله سبحانه .

ثم ولد لمتوشلخ لمك في حياة آدم ، ثم ولد للمك نوح عليه السلام .

وقيل: كان لمتوشلخ ولد يقال له: صابئ ، وبه سمي الصابئون .

روى عكرمة ، عن ابن عباس في قوله تعالى: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، قال: كان فيما بين نوح وإدريس ، وكانت ألف سنة ، وإن بطنين من ولد آدم ، كان أحدهما يسكن السهل ، والآخر يسكن الجبال ، وكان رجال الجبال صباحا وفي النساء دمامة ، وكان نساء السهل صباحا وفي الرجال دمامة ، وأتى إبليس رجلا من أهل السهل في صورة غلام ، فآجر نفسه منه ، وكان إبليس يخدمه ، فأخذ إبليس مثل هذا الذي يزمر فيه الرعاء ، فجاء فيه بصوت لم يسمع الناس مثله ، [فبلغ ذلك من حولهم] ، فانتابوهم يسمعون إليه ، [واتخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة] ، فتتبرج النساء للرجال .

[قال: وينزل الرجال لهن . وإن رجلا من أهل الجبل هجم عليهم وهم في عيدهم ذلك ، فرأى النساء وصباحتهن ، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك] ، ثم تحولوا

[ ص: 236 ]

[إليهن] ، فنزلوا معهن ، فظهرت الفاحشة [فيهن] ، فهو قوله تعالى: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى .

وقد كانت أحداث كثيرة وقرون بين آدم ونوح لا يعلم أكثرها .

وروى أبو أمامة أن رجلا سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كم كان بين آدم ونوح ؟ قال: "عشرة قرون" .

قال الشيخ الإمام أبو الفرج : وقد اختلف في ترتيب هذه القرون والأحداث الكائنة فيها .

فمن ذلك: أن قوما قالوا: ملك طهمرث ، ويقال: طهمورب ، بالباء ، كذلك ضبط أبو الحسين ابن المنادي . ويقال: طهومرت ، وهو من ولد أوشنج ، وبينهما عدة آباء ، فسلك طريق جده ، وملك الأقاليم كلها ، وبنى الموضع الذي جدده بعد ذلك شابور ملك فارس ، ونزله ، ونفى الأشرار ، وهو أول من كتب بالفارسية ، واتخذ الخيل والبغال والحمير ، والكلاب لحفظ المواشي ، واستمرت أحواله على الصلاح .

ثم ملك أخوه جم الشيذ ، وتفسيره سد الشعاع ، سمي بذلك لأنه كان جميلا وضيئا ، فملك الأقاليم ، وسلك السيرة الجميلة وزاد في الملك بأن ابتدع عمل السيوف والسلاح ودل على صنعة الإبريسم والقز وغيره ومما يغزل . وأمر بنسج الثياب وصبغها ، و [نحت] السروج والأكف ، [وتذليل الدواب بها] .

وصنف الناس أربع طبقات: طبقة مقاتلة ، وطبقة كتابا ، وطبقة صناعا وحراثين ، وطبقة خدما . [ ص: 237 ]

وعمل أربعة خواتم: خاتما للحرث والشرط ، وكتب عليه الأناة ، وخاتما للخراج وجباية الأموال ، وكتب عليه العمارة . وخاتما للبريد ، وكتب عليه الرخاء . وخاتما للمظالم ، وكتب عليه العدل ، فبقيت هذه الرسوم في ملوك الفرس إلى أن جاء الإسلام .

وألزم من غلبه من أهل الفساد بالأعمال الصعبة من قطع الصخور من الجبال ، وعمل الرخام والجص والبناء والكلس والحمامات .

وأخرج من البحار والجبال والمعادن والفلوات كل ما ينتفع به الناس من الذهب والفضة وما يذاب من الجواهر وأنواع الطيب والأدوية ، وأحدث النوروز فجعله عيدا .

ثم إنه بطر وجمع الخلق فأخبرهم أنه مالكهم والدافع عنهم بقوته الهرم والسقم والموت ، وجحد إحسان الله إليه ، وادعى الربوبية .

فأحس بذلك الملك بيوراسب الذي يسمى الضحاك ، وهو من ولد جيومرث ، ويزعم قوم أن جم الشيذ زوج أخته بعض أشراف أهل بيت ، فولدت له الحكم فانتدب إلى جم بنفسه ، فهرب منه ، ثم ظفر به الضحاك فامتلخ أمعاءه ونشره بمنشار .

وقد روينا عن وهب بن منبه قصة تشبه أن تكون قصة جم لولا أن فيها ذكر نصر ، وبين جم ونصر بون بعيد ، إلا أن يكون الضحاك سمي بذلك الزمان بخت نصر .

فأخبرنا عبد الخالق بن أحمد بن يوسف ، أخبرنا علي بن محمد بن إسحاق اليزدي ، أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد الرازي ، أخبرنا جعفر بن عبد الله الروياني ، حدثنا أبو بكر محمد بن هارون ، حدثنا أحمد بن يوسف ، حدثنا خلف ، حدثنا إسماعيل ، حدثنا عبد الصمد بن معقل ، قال: سمعت وهبا يقول:

إن رجلا ملك وهو شاب ، فقال: إني لأجد للملك لذة ، ولا أدري أكذلك يجد الناس الملك أم أنا أجده من بينهم؟ فقيل: بل الملك كذلك ، فقال: ما الذي يقيمه لي؟

[ ص: 238 ]

فقيل له: يقيمه أن تطيع الله ولا تعصيه ، فدعا ناسا من خيار من [كان] في ملكه ، فقال لهم: كونوا بحضرتي وفي مجلسي ، فما رأيتم أنه طاعة الله فمروني أن أعمل به ، وما رأيتم أنه معصية الله فازجروني عنه أنزجر ، ففعل ذلك هو وهم ، فاستقام ملكه أربعمائة سنة مطيعا لله .

ثم إن إبليس انتبه لذلك ، فقال: تركت رجلا يعبد الله ملكا أربعمائة [سنة] ، فجاء فدخل عليه وتمثل له برجل ، ففزع منه الملك فقال: من أنت؟ فقال إبليس: لا ترع ، ولكن أخبرني من أنت؟ فقال الملك: أنا رجل من بني آدم ، فقال له إبليس: لو كنت من بني آدم لقد مت كما يموت بنو آدم ، ألم تر كم قد مات من الناس وذهب [من] القرون ، ولكنك إله ، فادع الناس إلى عبادتك .

فدخل ذلك في قلبه ، ثم صعد المنبر ، فخطب الناس ، فقال: يا أيها الناس إني [قد كنت] أخفيت عليكم أمرا بان لي إظهاره لكم ، أتعلمون أني ملكتكم أربعمائة سنة ، فلو كنت من بني آدم لقد مت كما ماتوا ، ولكني إله فاعبدوني فأرعش مكانه ، فأوحى الله تعالى إلى بعض من كان معه ، فقال: أخبره أني [قد] استقمت [له] ما استقام لي ، فارعوى من طاعتي إلى معصيتي فلم يستقم لي ، فبعزتي حلفت لأسلطن عليه نصر فليضربن عنقه ، وليأخذن ما في خزانته ، وكان في ذلك الزمان لا يسخط الله على أحد إلا سلط عليه نصر فضرب عنقه وأوقر من خزانته سبعين سفينة [ذهبا] . [ ص: 239 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية