الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                294 حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا خالد بن عبد الله عن الشيباني عن عبد الله بن شداد عن ميمونة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيض [ ص: 535 ]

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                [ ص: 535 ] ( باب مباشرة الحائض فوق الإزار )

                                                                                                                فيه ( عائشة - رضي الله عنها - قالت : كان إحدانا إذا كانت حائضا أمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تأتزر في فور حيضتها ثم يباشرها ، قالت : وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يملك إربه ) . وفيه : ( ميمونة - رضي الله عنها - قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيض ) هكذا وقع في الأصول في الرواية في الكتاب عن عائشة : كان إحدانا من غير ( تاء ) في ( كان ) وهو صحيح ، فقد حكى سيبويه في كتابه في باب ما جرى من الأسماء - التي هي من الأفعال ، وما أشبهها من الصفات - مجرى الفعل ، قال : وقال بعض العرب : قال امرأة ، فهذا نقل الإمام هذه الصيغة أنه يجوز حذف التاء من فعل ما له فرج من غير فصل ، وقد نقله أيضا الإمام أبو الحسين بن خروف في شرح الجمل ، وذكره آخرون ، ويجوز أن تكون ( كان ) هنا التي للشأن والقصة أي كان الأمر أو الحال ثم ابتدأت فقالت : إحدانا إذا كانت حائضا أمرها . والله أعلم .

                                                                                                                وقولها : ( في فور حيضتها ) هو بفتح الفاء وإسكان الراء معناه : معظمها ووقت كثرتها ، والحيضة بفتح الحاء أي : الحيض ، وقولها : ( أن تأتزر ) معناه تشد إزارا تستر سرتها ، وما تحتها إلى الركبة فما تحتها . وقولها : ( وأيكم يملك إربه ) ؟ أكثر الروايات فيه بكسر الهمزة مع إسكان الراء ، ومعناه : [ ص: 536 ] عضوه الذي يستمتع به أي : الفرج ، ورواه جماعة بفتح الهمزة والراء ، ومعناه : حاجته وهي شهوة الجماع ، والمقصود أملككم لنفسه ; فيأمن مع هذه المباشرة الوقوع في المحرم ، وهو مباشرة فرج الحائض . واختار الخطابي هذه الرواية ، وأنكر الأولى وعابها على المحدثين . والله أعلم .

                                                                                                                وأما ( الحيض ) فأصله في اللغة السيلان ، وحاض الوادي إذا سال ، قال الأزهري والهروي وغيرهما من الأئمة : الحيض : جريان دم المرأة في أوقات معلومة ، يرخيه رحم المرأة بعد بلوغها ، ( والاستحاضة ) : جريان الدم في غير أوانه ، قالوا : ودم الحيض يخرج من قعر الرحم ، ودم الاستحاضة يسيل من العاذل بالعين - المهملة وكسر الذال المعجمة - وهو عرق فمه الذي يسيل منه في أدنى الرحم دون قعره . قال أهل اللغة : يقال حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا ومحاضا فهي حائض بلا هاء ، هذه اللغة الفصيحة المشهورة . وحكى الجوهري عن الفراء : حائضة بالهاء ويقال : حاضت وتحيضت ودرست وطمثت وعركت وضحكت ونفست ، كله بمعنى واحد ، وزاد بعضهم أكبرت وأعصرت بمعنى حاضت .

                                                                                                                وأما أحكام الباب : فاعلم أن مباشرة الحائض أقسام : أحدها : أن يباشرها بالجماع في الفرج ، فهذا حرام بإجماع المسلمين . بنص القرآن العزيز والسنة الصحيحة . قال أصحابنا : ولو اعتقد مسلم حل جماع الحائض في فرجها صار كافرا مرتدا ، ولو فعله إنسان غير معتقد حله ، فإن كان ناسيا أو جاهلا بوجود الحيض ، أو جاهلا بتحريمه ، أو مكرها ; فلا إثم عليه ، ولا كفارة ، وإن وطئها عامدا عالما بالحيض والتحريم ، مختارا فقد ارتكب معصية كبيرة ، نص الشافعي على أنها كبيرة ، وتجب عليه التوبة ، وفي وجوب الكفارة قولان للشافعي ، أصحهما وهو الجديد ، وقول مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين وجماهير السلف : أنه لا كفارة عليه ، وممن ذهب إليه من السلف : عطاء وابن أبي مليكة والشعبي والنخعي ومكحول والزهري وأبو الزناد وربيعة وحماد بن أبي سليمان وأيوب السختياني وسفيان الثوري والليث بن سعد - رحمهم الله تعالى أجمعين - والقول الثاني وهو القديم الضعيف : أنه يجب عليه الكفارة ، وهو مروي عن ابن عباس والحسن البصري وسعيد بن جبير وقتادة والأوزاعي وإسحاق ، وأحمد في الرواية الثانية عنه ، واختلف هؤلاء في الكفارة ، فقال الحسن وسعيد : عتق رقبة . وقال الباقون : دينار أو نصف دينار ، على اختلاف منهم في الحال الذي يجب فيه الدينار ونصف الدينار ، هل الدينار في أول الدم ونصفه في آخره ؟ أو الدينار في زمن الدم ، ونصفه بعد انقطاعه ؟ وتعلقوا بحديثابن عباس المرفوع : " من أتى امرأته وهي حائض ; فليتصدق بدينار أو نصف دينار " ، وهو حديث ضعيف باتفاق الحفاظ ، فالصواب أن لا كفارة . والله أعلم .

                                                                                                                القسم الثاني : المباشرة فيما فوق السرة [ ص: 537 ] وتحت الركبة بالذكر أو بالقبلة أو المعانقة أو اللمس أو غير ذلك ، وهو حلال باتفاق العلماء . وقد نقل الشيخ أبو حامد الإسفراييني وجماعة كثيرة الإجماع على هذا ، وأما ما حكي عن عبيدة السلماني وغيره من أنه لا يباشر شيئا منها بشيء منه ، فشاذ منكر غير معروف ولا مقبول ، ولو صح عنه لكان مردودا بالأحاديث الصحيحة المشهورة المذكورة في الصحيحين وغيرهما في مباشرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق الإزار ، وإذنه في ذلك بإجماع المسلمين قبل المخالف وبعده ، ثم إنه لا فرق بين أن يكون على الموضع الذي يستمتع به شيء من الدم أو لا يكون ، هذا هو الصواب المشهور الذي قطع به جماهير أصحابنا وغيرهم من العلماء للأحاديث المطلقة ، وحكى المحاملي من أصحابنا وجها لبعض أصحابنا : أنه يحرم مباشرة ما فوق السرة وتحت الركبة ، إذا كان عليه شيء من دم الحيض ، وهذا الوجه باطل لا شك في بطلانه . والله أعلم .

                                                                                                                القسم الثالث : المباشرة فيما بين السرة والركبة في غير القبل والدبر ، وفيها ثلاثة أوجه لأصحابنا : أصحها عند جماهيرهم وأشهرهما في المذهب : أنها حرام . والثاني : أنها ليست بحرام ، ولكنها مكروهة كراهة تنزيه ، وهذا الوجه أقوى من حيث الدليل ، وهو المختار . والوجه الثالث : إن كان المباشر يضبط نفسه عن الفرج ، ويثق من نفسه باجتنابه إما لضعف شهوته ، وإما لشدة ورعه ; جاز وإلا فلا ، وهذا الوجه حسن ، قالهأبو العباس البصري من أصحابنا . وممن ذهب إلى الوجه الأول - وهو التحريم مطلقا - مالك وأبو حنيفة ، وهو قول أكثر العلماء منهم : سعيد بن المسيب وشريح وطاوس وعطاء وسليمان بن يسار وقتادة ، وممن ذهب إلى الجواز : عكرمة ومجاهد والشعبي والنخعي والحكم والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل ومحمد بن الحسن وأصبغ وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وابن المنذر وداود وقد قدمنا أن هذا المذهب أقوى دليلا ، واحتجوا بحديث أنس الآتي " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " قالوا : وأما اقتصار النبي - صلى الله عليه وسلم - في مباشرته على ما فوق الإزار ، فمحمول على الاستحباب . والله أعلم .

                                                                                                                واعلم أن تحريم الوطء والمباشرة - على قول من يحرمهما - يكون في مدة الحيض ، وبعد انقطاعه إلى أن تغتسل أو تتيمم ، إن عدمت الماء بشرطه . هذا مذهبنا ومذهب مالك وأحمد وجماهير السلف والخلف ، وقال أبو حنيفة : إذا انقطع الدم لأكثر الحيض ; حل وطؤها في الحال ، واحتج الجمهور بقوله تعالى : ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله . والله أعلم . [ ص: 538 ]




                                                                                                                الخدمات العلمية