الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          قال تعالى في تبكيت هؤلاء الناس ورد زعمهم : ( قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ) أي قل ، أيها الرسول ، لهؤلاء النصارى المتجرئين على مقام الألوهية بهذا الزعم الباطل : من يملك من أمر الله وإرادته شيئا يدفع به الهلاك والإعدام عن المسيح وأمه ، وعن سائر أهل الأرض ، إن أراد عز وجل أن يهلكهم ويبيدهم ؟ والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتجهيل ; أي إن المسيح وأمه من المخلوقات التى هي قابلة لطروء الهلاك والفناء عليها كسائر أهل الأرض ، فإذا أراد الله أن يهلكهما ويهلك أهل الأرض جميعا ، لا يوجد أحد يستطيع أن يرد إرادته ; لأنه هو المالك لأمر الوجود كله ، ولا يملك أحد من أمره شيئا يستطيع به أن يصرفه عن عمل [ ص: 257 ] يريده أو يحمله على أمر لا يريده ، أو يستقل بعمل دونه . تقول العرب : ملك فلان على فلان أمره : إذا استولى عليه ، فصار لا يستطيع أن ينفذ أمرا ولا أن يفعل شيئا إلا به أو بإذنه . قال ابن دريد في وصف الخمرة التى لم يكسر المزج حدتها ، ولم تبطل النار تأثيرها : لم يملك الماء عليها أمرها ولم يدنسها الضرام المحتضى وقوله تعالى : ( فمن يملك من الله شيئا ) أبلغ من مثل هذا القول ; لأنه نفى أن يملك أحد بعض أمره تعالى فضلا عن ملك أمره كله ، فصار المعنى : أنه لا يوجد أحد يستطيع أن يرد أمره ، أو يحوله عن إرادته بوجه ما ، ولو الدعاء والشفاعة ; إذ لا يستطيع أحد أن يشفع عنده إلا بإذنه لمن ارتضاه ، فالأمر في ذلك كله له وحده عز وجل ، ويدخل في عموم ذلك المسيح نفسه وغيره من الأنبياء ، وكذا الملائكة عليهم السلام ، فإذا كان المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الهلاك أو عن والدته ، كما أنه لا يستطيع غيره أن يدفعه عنه إذا أراد الله تعالى إنزاله به ؛ فكيف يكون هو الله الذى بيده ملكوت كل شيء ؟

                          ومن غريب تهافت هؤلاء الناس أنهم قالوا : إن شر نوع من أنواع الإهلاك ، وهو الصلب نزل بالمسيح - الذي هو الكلمة والله هو الكلمة بزعمهم - ولم يستطع أن يدفعه عن نفسه ، وأنه استغاث بربه خائفا وجلا ضارعا خاضعا ; ليصرف عنه ذلك الكأس ، فلم يجبه إلى ما طلب ! وهم يكابرون أنفسهم في دفع هذا التهافت بمثل قولهم : إنه كان له طبيعتان ومشيئتان ; ثنتان منهما إلهيتان ، وثنتان بشريتان ، وليت شعري ، إذا كان هذا ممكنا ؛ فهل يمكن معه أن يجهل المسيح بطبيعته البشرية طبيعته الإلهية ، فيعترض عليها بمثل قولهم عنه في إنجيل متى ( 37 : 46 إلهي إلهي ، لماذا تركتني ) ويستنجدها غير عالم بما يمكن وما لا يمكن لها بمثل ما قالوه عنه في إنجيل متى ( 26 : 39 ثم تقدم قليلا ، وخر على وجهه ، وكان يصلي قائلا : يا أبتاه ، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس ) إلى أن قال : ( 42 فمضى أيضا ثانية وصلى قائلا : إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس ، إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك ) وهذا أعظم حجة عليهم مصدقة لحجة القرآن ، فإن مشيئة الله لا يردها شيء .

                          ثم إن الطبيعة البشرية هي التي خاطبت البشر ، فإذا كان هذا شأنها ; لا يقبل قولها ، ولا يوثق بتعليمها ؛ فكيف تجعل مع الطبيعة الأخرى شيئا واحدا يسمى ربا وإلها ويعبد ؟ والناس ما رأوا إلا الطبيعة البشرية ، ولا عرفوا غيرها ، ولا سمعوا إلا كلامها ، ولا رأوا إلا أفعالها ، والنكتة في عطف ( ومن في الأرض جميعا ) على المسيح وأمه التذكير بأنهما من جنس البشر الذين في الأرض ، وما جاز على أحد المثلين جاز على الآخر ، وأناجيلهم تعترف بأن المسيح كان كغيره في الشئون البشرية ، كما سيأتي في تفسير ( ما المسيح ابن مريم إلا رسول 5 : 75 ) الآية .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية