الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ) المقدسة : المطهرة من الوثنية ، لما بعث الله فيها من الأنبياء دعاة التوحيد ، وفسر مجاهد " المقدسة " : بالمباركة ، ويصدق بالبركة الحسية والمعنوية ، وروى ابن عساكر عن معاذ بن جبل أن الأرض المقدسة : ما بين العريش إلى الفرات ، وروى عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة : أنها الشام ، والمعنى واحد ، فالمراد بالقولين القطر السوري في عرفنا ، وهذا يدل على أن هذا التحديد لسورية قديم ، وحسبنا أنه من عرف سلفنا الصالح . وقالوا : إنه هو مراد الله تعالى ولا أحق ولا أعدل من قسمة الله تعالى وتحديده ، وفي اصطلاح بعض المتأخرين أن سورية هي القسم الشمالي الشرقي من هذا القطر ، والباقي يسمونه فلسطين أو بلاد المقدس ، والمشهور عند الناس أنها هي " الأرض المقدسة " ، والقول الأول هو الصحيح ; فإن بني إسرائيل ملكوا سورية ، فسورية وفلسطين شيء واحد في هذا المقام ، ويسمون البلاد المقدسة أرض الميعاد ; فإن الله تعالى وعد بها ذرية إبراهيم ، ويدخل فيما وعد الله به إبراهيم الحجاز وما جاوره من بلاد العرب ، وقد خرج موسى ببني إسرائيل من مصر ; ليسكنهم الأرض المقدسة التي وعدوا بها من عهد أبيهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم ؛ وإنما كان يريد موسى عليه السلام بأرض الموعد والبلاد المقدسة ما عدا بلاد الحجاز التي هي أرض أولاد عمهم العرب .

                          [ ص: 269 ] قال الدكتور بوست في قاموس الكتاب المقدس : اختص اسم فلسطين أولا بأرض الفلسطينيين ، ثم أطلق على كل أرض الإسرائيليين غربي الأردن ، فكان يطلق عليها في الأصل اسم كنعان ، وكانت فلسطين معروفة أيضا بالأرض المقدسة ، وأرض إسرائيل ، وأرض الموعد ، واليهودية ، وهي واقعة على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط بين سهول النهرين ( الدجلة والفرات ) والبحر المذكور ، وبين ملتقى قارتي آسية وإفريقية ، وهي متوسطة بين أشور ومصر وبلاد اليونان والفرس ، إلى أن قال : ويعسر علينا معرفة حدود فلسطين ، فإنه مع دقة الشرح عن التخوم التي تفصل بين سبط وآخر لم يشرح لنا في الكتاب المقدس شرحا مستوفى ، تتميز به تخوم فلسطين عن تخوم الأمم المجاورة لها ، ويظهر أن هذه التخوم كانت تتغير من جيل إلى جيل ، أما الأرض الموعود بها لإبراهيم والموصوفة في كتابات موسى فكانت تمتد من جبل هور إلى مدخل حماه ، ومن نهر مصر العريش " إلى النهر الكبير نهر الفرات " ( تك 15 : 18 وعد 34 : 2 - 12 وتث 1 : 17 ) وأكثر هذه الأراضي كانت تحت سلطة سليمان ، فكان التخم الشمالي حينئذ سورية ، والشرقي الفرات والبرية السورية ، والجنوبي برية التيه وأدوم ، والغربي البحر المتوسط . انتهى بنصه ، مع اختصار حذف به أكثر الشواهد ، ولا حاجة لنا بغير الأخيرة منها ، وهي التي ذكرناها .

                          فقوله تعالى : ( كتب الله لكم ) يريد به موسى ما وعد الله به إبراهيم ، يعني : كتب لهم الحق في سكنى تلك البلاد المقدسة ، بحسب ذلك الوعد ، أو في علمه ، وليس معناه أنها كلها تكون ملكا لهم دائما ، أو لا يزاحمهم فيها أحد ; لأن هذا مخالف للواقع ، ولن يخلف الله وعده . فاستنباط اليهود من ذلك الوعد أنه لا بد أن يعود لهم الملك في البلاد المقدسة غير صحيح ، ويحسن هنا أن نذكر نص التوراة العربية الموجودة الآن في هذا الوعد . جاء في سفر التكوين أنه لما مر إبراهيم بأرض الكنعانيين ظهر له الرب ( 12 : 7 وقال لنسلك أعطي هذه الأرض ) وجاء فيه أيضا ما نصه ( 15 : 18 في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا : لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات ) وهذا الوعد ذكر في سفر التكوين قبل ذكر ولادة إسماعيل ، وجاء فيه بعد ذكر ولادة إسماعيل له ، ووعد الله بتكثير نسله ، وبكونهم يسكنون أمام جميع إخوتهم ( 17 : 8 وأعطي لك ، ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا ، وأكون إلههم ) فهذا وذاك يدلان على أن العرب أولى أولاد إبراهيم بأن يكونوا أول من تناولهم العهد والميثاق ، والوفاء الأبدي لا يتحقق إلا به . والأمر كذلك ، فقد أصبحت تلك البلاد كلها عربية محضة .

                          وليس فيه بعد ذكر ولادة إسحاق وعد لإبراهيم مثل هذا ببلاد ولا بأرض ، ولكن فيه أنه يقيم معه عهدا أبديا لنسله ، وأن هذا العهد لإسحاق دون إسماعيل ، فما هذا العهد ؟ [ ص: 270 ] إن كان عهد النبوة ، فالواقع أنها ليست أبدية في نسل إسحاق ; لأنها انقطعت بالفعل منهم من زهاء ألفي سنة ، وكان خاتم النبيين من ولد إسماعيل ، وإن كان عهد امتلاك الأرض المقدسة فهو لم يكن أبديا فيهم ; لأنها نزعت منهم قبل العرب ، ثم أخذها العرب ، وصارت لهم بالامتلاك السياسي ، ثم بالامتلاك الطبيعي ؛ إذ غلبوا على سائر العناصر التي كانت فيها ، وأدغموها في عنصرهم المبارك ، الذي وعد الله إبراهيم بأن يباركه ويثمره ، ويكثره جدا جدا ، ويجعله أمة كبيرة ( راجع 17 : 18 من سفر التكوين ) .

                          نعم إن الفصل الرابع والثلاثين من سفر العدد صريح في أمر بني إسرائيل بدخول أرض كنعان ، واقتسامها بين أسباط بني إسرائيل ، وهذا حق قد وقع ، فلا مراء فيه ، وهو يوافق ما قلناه قبل من أن بني إسرائيل يكون لهم حظ في تلك البلاد في وقت ما ، وأن وعد الله لإبراهيم صلى الله عليه وسلم يشمل ذلك ، ولكنه ليس خاصا بهم ، ولا هم أولى به من أولاد عمهم العرب ، بل هؤلاء هم الأولى كما حصل بالفعل ، وكان وعد الله مفعولا .

                          يوضح هذا ما نقله كاتب سفر تثنية الاشتراع عن موسى صلى الله عليه وسلم وهو ( 1 : 6 الرب إلهنا كلمنا في حوريب قائلا : كفاكم قعودا في هذا الجبل 7 تحولوا وارتحلوا ، وادخلوا جبل الأموريين ، وكل ما يليه من العربة ( وفي الترجمة اليسوعية القفر ) والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر أرض الكنعاني ، ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات 80 انظروا قد جعلت أمامكم الأرض ، ادخلوا وتملكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم ) وأعاد التذكير بهذا الوعد في الفصل الثالث من هذا السفر ، وهذا النص هو المراد من الآية التي نفسرها ، وليس في العبارة شيء يدل على الاختصاص ولا التأبيد ، ويدخل في عموم نسل إبراهيم نسل ولده إسماعيل .

                          وأما ذكر إسحاق ويعقوب هنا ; فلأن الرب ذكرهما بوعده لإبراهيم أبيهما ، وأكده لهما ولنسلهما ، ولكن ليس فيه ذكر التأييد ( تك 26 و28 ) كما سبق في وعد لإبراهيم ، فالوعد المؤكد المؤبد إنما كان لإبراهيم ، ولم يصدق إلا بمجموع نسله ، وهم العرب والإسرائيليون .

                          ومما يجب التنبيه إليه أن ذكر الرب لإسحاق ما وعد به أباه إبراهيم من إعطاء نسله تلك البلاد معلل بحفظ أوامره وفرائضه وشرائعه ( تك 26 : 5 وخر 13 ) وهو عين الوعد الذي ذكره ليعقوب في المنام في الفصل الـ 28 ، وإن لم يذكر هنالك التعديل . وهو يدل على انتفاء المعلول بانتفاء علته ، وتحرير هذا المعنى هو الذي أوحاه الله تعالى إلى خاتم رسله محمد [ ص: 271 ] النبي الأمي صلى الله عليه وسلم بقوله في سورة الإسراء التي تسمى أيضا سورة بني إسرائيل ، وملخصه : أنهم يفسدون في الأرض مرتين قبل الإسلام ، فيسلط عليهم كل مرة من يذلهم ويستولي على مدينتهم ومسجدهم ، ويتبروا ما استولوا عليه منهما تتبيرا ، وقد كان ذلك ، ثم قال : ( عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا 17 : 8 ) قال المفسرون : وقد عادوا ، وعاد انتقام العدل الإلهي منهم ، فسلط الله عليهم الروم قبل المسيحية وبعدها ، ثم المسلمين ، ومزقوا في الأرض كل ممزق ، وتدل بعض الآيات على أن الملك لا يعود إليهم ، ، ولولا ذلك لكانت آية ( عسى ربكم ) أرجى الآيات لهم ; لأنها تدل على أن الأمر يدور مع العلة وجودا وعدما ، وأنهم إن عادوا إلى الإيمان الصحيح والإصلاح يعود إليهم ما فقد منهم ، ولا يتحقق هذا إلا بالإسلام ، فإن أسلموا واتحدوا ببني عمهم العرب يملكون كل هذه البلاد وغيرها ، ولكن الرجاء في هذا بعيد في هذا العصر ; لأن الإسرائيليين شديدو التقليد والجمود في جنسيتهم النسبية والدينية ، وهذا العصر عصر العصبية الجنسية للأقوام ، حتى إن كثيرا من شعوب المسلمين يحلون رابطتهم الدينية لأجل شد عروة الرابطة اللغوية ، وإن لم تكن لهم لغات ذات آثار يحرص عليها ، بل منهم من يتكلفون تدوين لغاتهم وتأسيسها ; لأنها لم تكن لغات علم وكتاب ، ثم إن أمر الدنيا غالب فيه على أمر الدين ، واليهود يريدون أن يعيدوا ملكهم لهذه البلاد بتكوين وتأسيس جديد ، ويستعينون عليه بالمال وطرق العمران الحديثة .

                          فيا دارها بالخيف إن مزارها قريب ولكن دون ذلك أهوال فإن الشعوب النصرانية ودولها القوية تعارضهم في التغلب على بيت المقدس . والعرب أصحاب الأرض كلها لا يتركونها لهم غنيمة باردة ، ولا تغني عنهم الوسائل الرسمية والمكايدة ، وإنما الذي يغني ويقني هو الاتفاق مع العرب على العمران ; فإن البلاد تسع من السكان أضعاف من فيها الآن .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية