الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو اشترى المضارب ببعض المال دارا في قيمتها فضل على رأس المال فباع رجل إلى جنبها دارا ، وفي يد [ ص: 147 ] المضارب من مال المضاربة مثل ثمن الدار التي بيعت إلى جنب دار المضاربة ، فأراد المضارب أن يأخذ الدار بالشفعة لنفسه لم يكن له ذلك ، وإنما يأخذها على المضاربة أو يدع ; لأن حق رب المال أصل ، وحق المضارب تبع وهو متمكن من أخذها بما هو الأصل ، والتبع لا يظهر مع ظهور الأصل وهذا ; لأن في أخذها للمضاربة مراعاة الحقين جميعا : حق رب المال ، وحق المضارب وفي أخذها لنفسه إبطال حق رب المال ، وليس للمضارب أن يقدم حق نفسه في الربح ، ويبطل حق رب المال فتسلم المضارب الشفعة فأراد رب المال أن يأخذها بالشفعة لنفسه ، لم يكن له ذلك ; لأن المضارب إذا كان متمكنا من الأخذ بالشفعة يصح منه التسليم في حق نفسه وفي حق رب المال جميعا ، فإن التسليم من التجارة كالأخذ ، قيل : هذا قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف - رحمهما الله - فأما عند محمد - رحمه الله - فينبغي أن لا يصح تسليمه في حق رب المال ، كما في الأب والوصي إذا سلما شفعة الصبي ، والأصح أن هذا قولهم جميعا ; لأن فيما هو من صنيع التجار ، المضارب نائب عن رب المال على الإطلاق ، وتسلم الشفعة من صنيع التجار .

ولو لم يكن في يد المضارب من مال المضاربة شيء يأخذ به الدار التي بيعت كان له أن يأخذها بالشفعة لنفسه ; لأنه غير متمكن من أخذها للمضاربة هنا ; لأنه لو أخذها للمضاربة كان استدانة منه على المال ، والمضارب لا يملك ذلك فإذا لم يثبت له الحق باعتبار الأصل ظهر حكم التبع ، وهو أنه جار للدار المبيعة بملكه في نصيبه من الربح ، فيكون له أن يأخذ بالشفعة لنفسه ، وإن لم يكن فيها فضل على رأس المال لم يكن للمضارب أن يأخذها لنفسه ; لأنه لا ملك له فيها وإنما جواره من حيث اليد دون الملك وبه لا يستحق الشفعة ، وإن أراد رب المال أن يأخذها لنفسه فله ذلك ; لأن ما في يد المضارب ملك لرب المال حقيقة ، فيكون به جارا للدار المبيعة ، فإن سلم المضارب الشفعة فتسليمه باطل ، ورب المال على شفعته ; لأن تسليم الشفعة إنما يصح ممن يكون متمكنا من الأخذ بالشفعة ، والمضارب هنا لم يكن متمكنا من الأخذ فليس له تسليم الشفعة .

ولو كان في الدار التي من المضاربة فضل على رأس المال ، وليس في يد المضارب من مال المضاربة شيء فأراد المضارب ورب المال أن يأخذ الدار المبيعة إلى جنب دار المضاربة بالشفعة لأنفسهما فلهما أن يأخذاها نصفين ; لأن كل واحد منهما جار لها بملكه في حصته من دار المضاربة ، واستحقاق الشفعة باعتبار عدد رءوس الشفعاء لا باعتبار مقدار الأنصباء ، فإن سلم أحدهما كان للآخر أن يأخذها كلها ; لأن لكل واحد من الشفيعين سببا تاما لاستحقاق جميع الدار المبيعة ، ولكن [ ص: 148 ] للمزاحمة عند طلبهما يأخذ كل واحد منهما النصف ، فإذا انعدمت هذه المزاحمة بتسليم أحدهما ، كان للآخر أن يأخذها كلها ، فإن كان بقي في يد المضارب من المضاربة قدر ثمن الدار التي بيعت فأراد المضارب ، أو رب المال أن يأخذها بالشفعة لم يكن له ذلك ; لأن حق المضاربة في هذه الدار هو الأصل قبل القسمة ; لما في الأخذ للمضاربة من مراعاة الحقين ، وفي أخذ أحدهما لنفسه إبطال حق الآخر وإذا كان الأخذ باعتبار الحق الأصلي ممكنا يوجب ترجيح ذلك ، فيكون للمضارب أن يأخذها للمضاربة ، وليس لواحد منهما أن يأخذها لنفسه ، فإن سلم المضارب الشفعة ; لم يكن لواحد منهما أن يأخذها بالشفعة بعد ذلك ; لأن المضارب كان متمكنا من أخذه لهما ، فيعمل تسليمه أيضا في حقهما ، أرأيت لو أخذها للمضاربة ، ثم باعها من الذي أخذها منه ، أو ردها عليه بحكم الإقالة أما كان يصح ذلك منه في حق رب المال فكذلك إذا ردها عليه بتسليم الشفعة له .

ولو لم يعلم المضارب بالشفعة حتى تناقضا المضاربة واقتسما الدار التي من المضاربة على قدر رأس المال والربح ، ثم أرادا أن يأخذا الدار المبيعة بالشفعة لأنفسهما فلهما ذلك ; لأن سبب الاستحقاق لكل واحد منهما يتقرر بالقسمة ، ولا ينعدم ، فإن السبب كونه جارا للدار المبيعة بملكه في دار المضاربة ، وبالقسمة يتقرر ملك كل واحد منهما ، إلا أن حق المضاربة كان مقدما ، فإذا انعدم ذلك بقسمتها كان لكل واحد منهما حق الأخذ لنفسه ، بالشفعة كالشريك إذا سلم الشفعة فللجار أن يأخذها ، فإن طلباها جميعا فهي بينهما نصفان ، وأيهما سلم أخذ الآخر الدار كلها ; لما قلنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية