الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ) أي لم تغن عنهم بينات الرسل ، ولا هذبت نفوسهم ، بل كان كثير منهم بعد ذلك الذي ذكر من التشديد عليهم في أمر القتل ، ومن مجيء الرسل بالبينات ، يسرفون في الأرض بالقتل وسائر ضروب البغي . أكد إثبات وصف الإسراف لكثير منهم تأكيدا بعد تأكيد ; لأن تشديد الشريعة ، وتكرار بينات الرسل ، كانت تقتضي عدم ذلك أو ندوره . والحكم على الكثير دون جميع الأمة من دقة القرآن في الصدق وتحديد الحقائق ، وهذا الرسوخ في الإسراف لا يمكن أن يعم أفراد الأمة ، والناس يطلقون وصف الكثير على الجميع في الغالب . والإسراف : مجاوزة الحد في العمل ; أي حد الحق والمصلحة ، ويعرف ذلك بالشرع في الأمور الشرعية ، وبالعقل والعرف في غير ذلك ، وفي القوم الذين ليس لهم شرع . وكل ما يتجاوز في الحد يفسد . والأصل في معنى الإسراف الإفساد ، فهو من السرقة ، وهي بالضم الدودة التي تأكل الشجر والخشب ، وإذا كان الإسراف في فعل الخير يجعله شرا ; كالنفقة الواجبة والمستحبة التي تذهب بالمال كله ، فتفسد على صاحبها أمر معاشه . فما بالك بالإسراف في الشر ، وهو المبالغة وتجاوز ما اعتاده الأشرار فيه ؟ وأما قوله تعالى في سورة بني إسرائيل : ( فلا يسرف في القتل ) ( 17 : 33 ) فهو نهي لولي المقتول أن يتجاوز حد القصاص إلى قتل غير القاتل ، أو تعذيب القاتل والتمثيل به .

                          وأكبر العبر في الآية أن قصة ابني آدم أقدم قصة تدلنا على أن الحسد كان مثار أول جناية في الشر ، ولا يزال هو الذي يفسد على الناس أمر اجتماعهم ، من اجتماع العشيرة [ ص: 291 ] في الدار إلى اجتماع القبيلة إلى اجتماع الدولة . فترى الحاسد تثقل عليه نعمة الله على أخيه في النسب أو الجنس أو الدين ، وهو لم يتعرض لمثلها لينالها ، فيبغي على أخيه ، ولو بما فيه شقاؤه هو . وأكبر الموانع لارتقاء المسلمين الآن هو الحسد والعياذ بالله تعالى من أهله ، لعنة الله عليهم ; لأن الأمم لا ترتقي إلا بنهوض المصلحين بها ، وكلما قام فينا مصلح تصدى الحاسدون لإحباط عمله .

                          من قرأ الآية وفهم ما فيها من تعليل تحريم القتل بغير حق وكون هذا الحق لا يعدو القصاص ومنع الإفساد في الأرض ، يتوجه ذهنه لاستبانة العقاب الذي يؤخذ به المفسدون ، حتى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم ، فبين الله ذلك العقاب بقوله :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية