الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              481 503 - حدثنا قبيصة قال: حدثنا سفيان، عن عمرو بن عامر، عن أنس قال: لقد رأيت كبار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري عند المغرب. وزاد شعبة، عن عمرو، عن أنس: حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -. [625 - مسلم: 837 - فتح: 1 \ 577]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه عن عمر أنه قال: المصلون أحق بالسواري من المتحدثين إليها.

                                                                                                                                                                                                                              والسواري جمع سارية، وهي الأسطوانة.

                                                                                                                                                                                                                              ورأى عمر رجلا يصلي بين أسطوانتين فأدناه إلى سارية فقال: صل إليها.

                                                                                                                                                                                                                              هذا الرجل هو: قرة أبو معاوية ابن قرة، روي ذلك عنه أنه قال: رآني عمر وأنا أصلي بين أسطوانتين، فأخذ بقفاي فأدناني من السترة وقال: صل إليها. وادعى ابن التين أن عمر إنما كره ذلك لانقطاع الصفوف، ويأتي في الباب بعده.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 43 ] وذكر فيه البخاري أيضا حديثين:

                                                                                                                                                                                                                              الأول عن شيخه مكي بن إبراهيم، ثنا يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آتي مع سلمة بن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: يا أبا مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة. قال: فإني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحرى الصلاة عندها.

                                                                                                                                                                                                                              وهو أحد ثلاثيات البخاري وأخرجه مسلم أيضا بلفظ: يصلي وراء الصندوق، وفي أخرى: كان يتحرى مكان المصحف يسبح فيه.

                                                                                                                                                                                                                              ثم الكلام عليه من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              الأسطوانة معروفة والنون أصلية، وهي أفعوالة، مثل أقحوانة؛ لأنه يقال: أساطين مسطنة، وكان الأخفش يقول: فعلوانة؛ وهذا يوجب زيادة الواو وإلى جنبها زائدتان الألف والنون ولا يكاد يكون، وقال قوم: هو أفعلانة، ولو كان كذلك لما جمع على أساطين؛ لأنه لا يكون في الكلام أفاعين؛ ذكره في "الصحاح".

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (التي عند المصحف) كأنه كان هناك مصحف.

                                                                                                                                                                                                                              و (يتحرى) يقصد ويعتمد قال تعالى: فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا [الجن: 14] أي: قصدوا، إنما كان يتحرى الصلاة في ذلك الموضع؛ لأنهم زادوا في المسجد، فكأنه كان يطلب موضع الحائط الأول.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 44 ] وفيه: أن الأسطوانة سترة وهي أولى من العنزة، وأن الأسطوانة ينبغي أن تكون أمامه، ولا تكون إلى جنبه لئلا يتخلل الصفوف شيء، فلا يكون له سترة.

                                                                                                                                                                                                                              وادعى شيخنا علاء الدين في "شرحه" أن هذا الحديث ليس فيه التصريح بالصلاة عند السواري وهو عجيب منه، وشيخنا قطب الدين إنما ذكر في حديث أنس أنه ليس فيه صريح الركعتين قبل المغرب فنقله إلى هذا وحرف.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثاني: حديث سفيان، عن عمرو بن عامر، عن أنس: لقد رأيت كبار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري عند المغرب. وزاد شعبة، عن عمرو، عن أنس: حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                              وهذا الحديث يأتي في الأذان أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              ورواه مسلم من حديث عبد العزيز بن صهيب، والمختار بن فلفل عن أنس كما يأتي.

                                                                                                                                                                                                                              وفي بعض النسخ بدل سفيان شعبة، وكلاهما رويا، عن عمرو؛ نبه عليه ابن عساكر في "أطرافه" وعمرو هذا أنصاري كوفي، وليس والد أسد كما وقع فيه أبو داود ونبه عليه المزي؛ ذاك يروي عن الحسن [ ص: 45 ] البصري، ولم يخرجوا له.

                                                                                                                                                                                                                              أما (عمرو) بن عامر السلمي البصري قاضيها، فلم يخرج له البخاري، وخرج له مسلم مات بعد الثلاثين ومائة.

                                                                                                                                                                                                                              وهذه الزيادة أسندها البخاري في باب كم بين الأذان والإقامة بلفظ: حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم كذلك يصلون الركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء. قال البخاري: قال عثمان بن جبلة وأبو داود عن شعبة: لم يكن بينهما إلا قليل.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث عثمان؛ خرجه الإسماعيلي في "صحيحه"، وأبو داود هذا هو الحفري واسمه عمر بن سعد، وعند الإسماعيلي: قام كبار الصحابة فابتدروا السواري، وعند مسلم: إذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري، فركعوا ركعتين حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليها، وفي لفظ: نصلي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة [ ص: 46 ] المغرب، قال المختار بن فلفل: قلت لأنس: أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاهما؟ قال: كان يرانا نصليهما، فلم يأمرنا ولم ينهنا.

                                                                                                                                                                                                                              وهذه المسألة - وهي: استحباب ركعتين قبل المغرب - فيها خلاف فلنبسط الكلام فيها وإن كانت دخيلة في الباب.

                                                                                                                                                                                                                              وقد استحبها جماعة من الصحابة وغيرهم؛ منهم: أحمد وإسحاق وأهل الظاهر، ولأصحابنا وهو الأصح عند المحققين عن أصحابنا، وإن كان الأشهر عندهم عدمه، وبه قال الخلفاء الأربعة، وجماعة من الصحابة ومالك وأبو حنيفة وقال النخعي: هي بدعة.

                                                                                                                                                                                                                              حجة المانع أمور:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: حديث بريدة رفعه: "بين كل أذانين صلاة إلا المغرب" وهذا فيه حيان بن عبيد الله؛ قال ابن حزم: انفرد بها وهو مجهول؛ والصحيح حديث عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن مغفل مرفوعا: "بين كل أذانين صلاة لمن شاء".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 47 ] وادعى ابن بزيزة بعد أن جهل راويها أن بعض الحفاظ صححها.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: ما ذكر عن إبراهيم النخعي أن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا يصلونها وهو منقطع كما قال ابن حزم؛ لأن إبراهيم لم يدرك أحدا من هؤلاء، ولم يولد إلا بعد قتل عثمان بسنتين.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: ما رواه عن أبي شعيب عن طاوس قال: سئل ابن عمر عن الركعتين قبل المغرب فقال: ما رأيت أحدا على عهد رسول الله يصليهما؛ وهذا لا يصح كما قال ابن حزم؛ لأنه عن أبي شعيب أو شعيب، ولا يدرى من هو أيضا؛ لكن قال أبو زرعة: لا بأس به.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: أن استحبابها يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها قليلا.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن أبي صفرة: وصلاتها كانت في أول الإسلام ليتبين خروج الوقت المنهي عنه بمغيب الشفق، ثم ألزم الناس بالمبادرة إلى المغرب لئلا يتباطأ الناس عن وقت الفضيلة للمغرب، وقد يقال: لأن وقتها واحد عند أكثر العلماء، ولا خلاف أن المبادرة بها أفضل والاشتغال بغيرها ذريعة إلى خلافه، لكنه زمن يسير لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها، ومن ادعى نسخها فهو مجازف.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن العربي: اختلف الصحابة فيها، ولم يفعله بعدهم أحد.

                                                                                                                                                                                                                              حجة من استحبها: ما تقدم من حديث أنس وعبد الله بن مغفل: "بين كل أذانين صلاة" والمراد بين الأذان والإقامة، وفي رواية: "صلوا قبل [ ص: 48 ] صلاة المغرب ركعتين"، ثم قال في الثالثة: "لمن شاء" كراهية أن يتخذها الناس سنة، وسيأتي في "الصحيح" من حديث مرثد بن عبد الله اليزني، قال: أتيت عقبة بن عامر، فقلت: ألا أعجبك من أبي تميم يركع ركعتين قبل صلاة المغرب؟ فقال عقبة: إنا كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت: ما يمنعك الآن، قال: الشغل.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حزم: وروينا عن عبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق؛ كلاهما عن الثوري، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش: أنه رأى عبد الرحمن بن عوف وأبي بن كعب يصليان الركعتين قبل صلاة المغرب، ورواه حماد، عن عاصم بزيادة: لا يدعانها؛ وعن معمر، عن الزهري، عن أنس أنه كان يصلي الركعتين قبل صلاة المغرب.

                                                                                                                                                                                                                              وعن زغبان مولى حبيب بن مسلمة: رأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهبون إلى الركعتين قبل صلاة المغرب كما يهبون إلى الفريضة.

                                                                                                                                                                                                                              وروينا عن وكيع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: ما رأيت فقيها يصلي الركعتين قبل المغرب إلا سعد بن مالك؛ يعني: سعد بن أبي وقاص.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 49 ] وعن جابر: أنه كان يصليهما.

                                                                                                                                                                                                                              وعن راشد بن يسار قال: أشهد على خمسة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أصحاب الشجرة أنهم كانوا يصلون ركعتين قبل المغرب.

                                                                                                                                                                                                                              وعن الحكم بن عتيبة، عن ابن أبي ليلى أنه كان يصليهما.

                                                                                                                                                                                                                              وعن يزيد بن إبراهيم سمعت الحسن البصري فسئل عن الركعتين قبل المغرب، فقال: حسنتين جميلتين لمن أراد بهما وجه الله.

                                                                                                                                                                                                                              ومن الفوائد: أن ابن حبان روى في "صحيحه" أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى قبل المغرب ركعتين؛ وقال عند الثالثة: "لمن شاء" خاف أن يحسبها الناس سنة.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية