الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية تشعرون تعلمون ومنه الشاعر

                                                                                                                                                                                                        4564 حدثنا يسرة بن صفوان بن جميل اللخمي حدثنا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع وأشار الآخر برجل آخر قال نافع لا أحفظ اسمه فقال أبو بكر لعمر ما أردت إلا خلافي قال ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم الآية قال ابن الزبير فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( سورة الحجرات . بسم الله الرحمن الرحيم ) كذا لأبي ذر ، واقتصر غيره على الحجرات حسب . والحجرات بضمتين جمع حجرة بسكون الجيم والمراد بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال مجاهد : لا تقدموا : لا تفتاتوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يقضي الله على لسانه ) [ ص: 454 ] وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد ، ورويناه في كتاب " ذم الكلام " من هذا الوجه .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : ضبط أبو الحجاج البناسي " تقدموا " بفتح القاف والدال وهي قراءة ابن عباس وقراءة يعقوب الحضرمي وهي التي ينطبق عليها هذا التفسير ، وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون لو أنزل في كذا فأنزلها الله ، قال : وقال الحسن : هم ناس من المسلمين ذبحوا قبل الصلاة يوم النحر فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( امتحن : أخلص ) وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه بلفظه ، وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال : أخلص الله قلوبهم فيما أحب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولا تنابزوا : يدعى بالكفر بعد الإسلام ) وصله الفريابي عن مجاهد بلفظ " لا يدعو الرجل بالكفر وهو مسلم " وقال : عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله : ولا تلمزوا أنفسكم قال : لا يطعن بعضكم على بعض ولا تنابزوا بالألقاب قال : لا تقل لأخيك المسلم : يا فاسق يا منافق . وعن الحسن قال : كان اليهودي يسلم فيقال له يا يهودي . فنهوا عن ذلك . وللطبري من طريق عكرمة نحوه . وروى أحمد وأبو داود من طريق الشعبي حدثني أبو جبيرة بن الضحاك قال : " فينا نزلت ولا تنابزوا بالألقاب قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وليس فينا رجل إلا وله لقبان أو ثلاثة ، فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا : إنه يغضب منه ، فنزلت " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يلتكم : ينقصكم ، ألتنا نقصنا ) وصله الفريابي عن مجاهد بلفظه ، وبه في قوله : وما ألتناهم من عملهم من شيء قال : ما نقصنا الآباء للأبناء .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : هذا الثاني من سورة الطور ذكره هنا استطرادا ، وإنما يتناسب ألتنا مع الآية الأخرى على قراءة أبي عمرو هنا فإنه قرأ " لا يألتكم " بزيادة همزة ، والباقون بحذفها ، وهو من لات يليت قاله أبو عبيدة ، قال : وقال : رؤبة :

                                                                                                                                                                                                        وليلة ذات ندى سريت ولم يلتني عن سراها ليت

                                                                                                                                                                                                        وتقول العرب : ألاتني حقي وألاتني عن حاجتي أي صرفني . وأما قوله : وما ألتناهم فهو من ألت يألت أي نقص .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 455 ] قوله : باب لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية كذا للجميع .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( تشعرون تعلمون ومنه الشاعر ) هو كلام أبي عبيدة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا يسرة ) بفتح الياء الأخيرة والمهملة وجده جميل بالجيم وزن عظيم ونافع بن عمر هو الجمحي المكي ، وليس هو نافع مولى ابن عمر ، ونبه الكرماني هنا على شيء لا يتخيله من له أدنى إلمام بالحديث والرجال فقال : ليس هذا الحديث ثلاثيا لأن عبد الله بن أبي مليكة تابعي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( كاد الخيران ) كذا للجميع بالمعجمة بعدها تحتانية ثقيلة وحكى بعض الشراح رواية بالمهملة وسكون الموحدة .

                                                                                                                                                                                                        ( يهلكان ) كذا لأبي ذر ، وفي رواية " يهلكا " بحذف النون ؛ قال ابن التين كذا وقع بغير نون وكأنه نصب بتقدير " أن " انتهى . وقد أخرجه أحمد عن وكيع عن نافع عن ابن عمر بلفظ " أن يهلكا " وهو بكسر اللام ونسبها ابن التين لرواية أبي ذر ، ثم هذا السياق صورته الإرسال لكن ظهر في آخره أن ابن أبي مليكة حمله عن عبد الله بن الزبير ، وسيأتي في الباب الذي بعده التصريح بذلك ولفظه عن ابن أبي مليكة " أن عبد الله بن الزبير أخبرهم " فذكره بكماله .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( رفعا أصواتهما حين قدم عليه ركب بني تميم ) في رواية أحمد " وفد بني تميم " وكان قدومهم سنة تسع بعد أن أوقع عيينة بن حصن ببني العنبر وهم بطن من بني تميم ، ذكر ذلك أبو الحسن المدائني

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأشار أحدهما ) هو عمر ، بينه ابن جريج في الرواية التي في الباب بعده ، ووقع عند الترمذي من رواية مؤمل بن إسماعيل عن نافع بن عمر بلفظ " إن الأقرع بن حابس قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أبو بكر : يا رسول الله استعمله على قومه ، فقال عمر لا تستعمله يا رسول الله " الحديث . وهذا يخالف رواية ابن جريج ، وروايته أثبت من مؤمل بن إسماعيل والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع ) الأقرع لقب واسمه فيما نقل ابن دريد فراس بن حابس بن عقال بكسر المهملة وتخفيف القاف ابن محمد بن سفيان بن مجاشع بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي ، وكانت وفاة الأقرع بن حابس في خلافة عثمان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وأشار الآخر ) هو أبو بكر ، بينه ابن جريج في روايته المذكورة برجل آخر فقال : نافع : لا أحفظ اسمه ، سيأتي في الباب الذي بعده من رواية ابن جريج عن ابن أبي مليكة أنه القعقاع بن معبد بن زرارة أي ابن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي . قال الكلبي في " الجامع " : كان يقال له تيار الفرات لجوده ، قلت : وله ذكر في غزوة حنين ، أورده البغوي في " الصحابة " بإسناد صحيح .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 456 ] قوله : ( ما أردت إلا خلافي ) أي ليس مقصودك إلا مخالفة قولي ، وفي رواية أحمد " إنما أردت خلافي " وهذا هو المعتمد . وحكى ابن التين أنه وقع هنا " ما أردت إلى خلافي " بلفظ حرف الجر ، و " ما " في هذا استفهامية " وإلى " بتخفيف اللام ، والمعنى أي شيء قصدت منتهيا إلى مخالفتي . وقد وجدت الرواية التي ذكرها ابن التين في بعض النسخ لأبي ذر عن الكشميهني .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فارتفعت أصواتهما ) في رواية ابن جريج " فتماريا " حتى ارتفعت أصواتهما .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأنزل الله ) في رواية ابن جريج " فنزل في ذلك " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم الآية زاد وكيع كما سيأتي في الاعتصام إلى قوله : " عظيم " وفي رواية ابن جريج " فنزلت يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله - إلى قوله - ولو أنهم صبروا " وقد استشكل ذلك ، قال ابن عطية : الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة الأعراب .

                                                                                                                                                                                                        قلت : لا يعارض ذلك هذا الحديث ، فإن الذي يتعلق بقصة الشيخين في تخالفهما في التأمير هو أول السورةلا تقدموا ولكن لما اتصل بها قوله : لا ترفعوا تمسك عمر منها بخفض صوته ، وجفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم من بني تميم ، والذي يختص بهم قوله : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة إن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من وراء الحجرات فقال : يا محمد إن مدحي زين وإن شتمي شين ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ذاك الله عز وجل ، ونزلت .

                                                                                                                                                                                                        قلت : ولا مانع أن تنزل الآية لأسباب تتقدمها ، فلا يعدل للترجيح مع ظهور الجمع وصحة الطرق ، ولعل البخاري استشعر ذلك فأورد قصة ثابت بن قيس عقب هذا ليبين ما أشرت إليه من الجمع ، ثم عقب ذلك كله بترجمة " باب قوله ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم " إشارة إلى قصة جفاة الأعراب من بني تميم ، لكنه لم يذكر في الترجمة حديثا كما سأبينه قريبا ، وكأنه ذكر حديث ثابت لأنه هو الذي كان الخطيب لما وقع الكلام في المفاخرة بين بني تميم المذكورين كما أورده ابن إسحاق في المغازي مطولا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فما كان عمر يسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية حتى يستفهمه ) في رواية وكيع في الاعتصام " فكان عمر بعد ذلك إذا حدث النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديث حدثه كأخي السرار لم يسمعه حتى يستفهمه " .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وقد أخرج ابن المنذر من طريق محمد بن عمرو بن علقمة أن أبا بكر الصديق قال مثل ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا مرسل ، وقد أخرجه الحاكم موصولا من حديث أبي هريرة نحوه ، وأخرجه ابن مردويه من طريق طارق بن شهاب عن أبي بكر قال : " لما نزلت لا ترفعوا أصواتكم الآية قال أبو بكر : قلت يا رسول الله آليت أن لا أكلمك إلا كأخي السرار " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر ) قال مغلطاي : يحتمل أنه أراد بذلك أبا بكر عبد الله بن الزبير أو أبا بكر عبد الله بن أبي مليكة فإن أبا مليكة له ذكر في الصحابة .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وهذا بعيد عن الصواب ، بل قرينة ذكر عمر ترشد إلى أن مراده أبو بكر الصديق . وقد وقع في رواية الترمذي قال : " وما ذكر ابن الزبير جده " وقد وقع في رواية الطبري من طريق مؤمل بن إسماعيل عن نافع بن عمر فقال في آخره " وما ذكر ابن الزبير جده يعني أبا بكر " وفيه تعقب على من عد في الخصائص النبوية أن أولاد بنته ينسبون إليه لقوله " إن ابني هذا سيد " وقد أنكره القفال على ابن القاص وعده القضاعي فيما اختص به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأنبياء ، وفيه نظر [ ص: 457 ] فقد احتج يحيى بن يعمر بأن عيسى نسب إلى إبراهيم وهو ابن بنته ، وهو استدلال صحيح ، وإطلاق الأب على الجد مشهور ، وهو مذهب أبي بكر الصديق كما تقدم في المناقب .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية