الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الحادي والتسعون والمائة بين قاعدة اتحاد الجنس وتعدده في باب ربا الفضل فإنه يجوز مع تعدده )

اعلم أن الله تعالى جعل الدنيا مزرعة للآخرة ومطية للسعادة الأبدية فهذا هو المقصود منها وما عداه فمعزول عن مقصد الشارع في الشرائع فلذلك يعتبر في نظر الشرع من الربويات ما هو عماد الأقوات وحافظ قانون الحياة ومقيم بنية الأشباح التي هي مراكب الأرواح إلى دار القرار ويلغى تفاوت الجودة والرداءة ؛ لأنه داعية السرف ولا يقصد إلا للترف فلو رتب الشرع عليه أحكامه لكان ذلك دليل اعتباره ومنها على رفعة قدره ومناره وهو خلاف الوضع الشرعي والقانون الحكمي فلذلك تساوت الألوان من الأطعمة في الجنسية ؛ لأن مهمها الإدام وتساوت الأخباز ؛ لأن مهمها الاغتذاء وعلى هذه القاعدة بنى العلماء رضي الله عنهم اتحاد الأجناس واختلافهما وإن كثرت فروع هذا الباب وانتشرت فهي راجعة إلى هذه القاعدة ومنها قاعدة أخرى في الفرق قال أبو الطاهر الصفة إذا كثرت أو بعد الزمان صيرت الجنس الواحد جنسين وإن قلت وقرب الزمان لم تصيره على أصل المذهب وإن كانت بنار وتنقص المقدار بغير إضافة شيء لم تصير جنسين كشي اللحم وتجفيفه وطبخه من غير مرقة ومنه تجفيف التمر والزبيب أو بإضافة شيء إليه صيرته جنسين كتخفيف اللحم بالأبزار والطبخ بالمرقة وإن كانت النار لا تنقص المقدار صيرته جنسين كقلي القمح والخبز وإن كانت الصناعة بغير نار وطال الزمان فقولان المشهور تأثيرها كخل التمر وخل الزبيب وإن لم يطل الزمان فالمشهور عدم التأثير ، والشاذ التأثير كالنبيذ من التمر والزبيب والنظر في ذلك كله إلى الأغراض في التفاوت في المقاصد والتقارب فيها .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الحادي والتسعون والمائة بين قاعدة اتحاد الجنس وقاعدة تعدده في باب ربا الفضل فإنه يجوز مع تعدده )

وهو مبني على قاعدتين

( القاعدة الأولى ) أن مقصود الشارع من الدنيا أن تكون مزرعة الآخرة ومطية السعادة الأبدية ، وأما ما عداه فمعزول عن مقصد الشارع في الشرائع فلا يعتبر في نظر الشرع من الربويات إلا ما هو عماد الأقوات وحافظ قانون الحياة ومقيم بنية الأشباح التي هي مراكب الأرواح إلى دار القرار ويلغى في نظره تفاوت الجودة والرداءة ؛ لأنه داعية السرف ولا يقصد إلا للترف فلو رتب الشرع عليه أحكامه لكان ذلك دليل اعتباره ومنبها على رفعة قدره ومناره وهو خلاف الوضع الشرعي والقانون الحكمي ففروع باب اتحاد الأجناس واختلافها وإن كثرت وانتشرت كلها راجعة إلى هذه القاعدة وعليها بنى تلك الفروع العلماء رضي الله عنهم ( فمن تلك الفروع ) أن السلت والشعير عند مالك جنس واحد لأنهما وإن اختلفا جودة ورداءة إلا أنهما اتفقا في المنافع والمتفقة المنافع لا يجوز التفاضل فيها باتفاق ( ومنها ) أن قوما ذهبوا إلى أن [ ص: 262 ] القمح والشعير جنس واحد وبه قال مالك والأوزاعي وحكاه مالك في الموطإ عن سعيد بن المسيب وعمدة مالك في ذلك أنه عمل سلفة بالمدينة وعمدة أصحابه فيه أولا قوله صلى الله عليه وسلم { الطعام مثلا بمثل } والطعام يتناول البر والشعير وثانيا أنهم عددوا كثيرا من اتفاقهما في المنافع والمتفقة المنافع لا يجوز التفاضل فيها باتفاق وذهب قوم إلى أنهما صنفان وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وعمدتهم أولا قوله صلى الله عليه وسلم { لا تبيعوا البر بالبر والشعير بالشعير إلا مثلا بمثل } فجعلهما صنفين لا سيما وفي بعض طرق حديث عبادة بن الصامت { وبيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم والبر بالشعير كيف شئتم والملح بالتمر كيف شئتم يدا بيد } ذكره عبد الرزاق ووكيع عن الثوري وصحح هذه الزيادة الترمذي وثانيا قياسهما من حيث إنهما شيئان اختلفت أسماؤهما ومنافعهما على الفضة والذهب وسائر الأشياء المختلفة في الاسم والمنفعة فكما وجب كون الفضة والذهب ونحوهما بذلك صنفين كذلك وجب كون البر والشعير بذلك صنفين .

( ومنها ) أن القطنية وهي العدس واللوبيا والحمص والفول والترمس والجلبان والبسلة عند مالك صنف واحد في الزكاة ؛ لأن الزكاة لا يعتبر فيها المجانسة القبلية وإنما يعتبر فيها تقارب المنفعة وإن اختلفت العين بخلاف البيع ألا ترى أن الذهب والفضة جنس واحد في الزكاة وهما جنسان في البيع ، وعنه في البيوع روايتان إحداهما قوله الثاني أنها صنف واحد والأخرى قوله الأول أنها أصناف وسبب الخلاف تعارض اتفاق المنافع فيها واختلاف أعيانها فمن غلب الاتفاق قال صنف واحد ، ومن غلب الاختلاف قال صنفان أو أصناف قال الحطاب والمشهور من مذهب مالك أنها أجناس متباينة يجوز الفضل بينهما وهو قول الإمام الأول واختاره ابن القاسم قال صاحب الطراز لاختلاف صورها وأسمائها الخاصة بها ومنافعها وعدم استحالة بعضها إلى بعض ؛ ولأن المرجع في اختلاف الأجناس إلى العرف وهي في العرف أجناس ، وقيل جنس واحد وهو قول الإمام الثاني في البيوع ( ومنها ) أن الأرز والدخن والذرة عند مالك صنف واحد كما في البداية ولكن المذهب أنها أجناس يجوز الفضل بينها ( ومنها ) أن التمر بأصنافه كلها جنس واحد بلا خلاف ، وكذلك الزيت بأصنافه كلها ( ومنها ) أن اللحوم على أحد قولي الشافعي كلها جنس واحد ، وقوله الآخر يوافق قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل أنها أنواع كثيرة يجوز التفاضل فيها إلا في النوع الواحد بعينه .

وقال مالك اللحوم ثلاثة أصناف مختلفة [ ص: 263 ] يجوز التفاضل فيها ولا يجوز في الصنف الواحد منها فلحم ذوات الأربع صنف واحد ولحم ذوات الماء صنف واحد ولحم الطير كله صنف واحد فبيع الغنم لحم بالبقر متفاضلا يجيزه أبو حنيفة دون مالك والشافعي وبيع لحم الطير بلحم الغنم متفاضلا يجيزه مالك وأبو حنيفة دون الشافعي وعمدة الشافعي قوله عليه الصلاة والسلام { الطعام بالطعام مثلا بمثل } ؛ ولأنها إذا فارقتها الحياة زالت الصفات التي بها تختلف وتناولها اسم اللحم تناولا واحدا وذلك ؛ لأنها وإن كانت مختلفة الألوان إلا أنها متساوية في الجنسية ؛ لأن مهمها الإدام وعمدة المالكية أن هذه أجناس مختلفة فوجب أن يكون لحمها مختلفا والحنفية تعتبر الاختلاف الذي في الجنس الواحد من هذه وتقول إن الاختلاف الذي بين الأنواع التي في الحيوان أعني في الجنس الواحد منه كالطائر وهو وزان الاختلاف الذي بين التمر والبر والشعير ( ومنها ) أن الأخباز متساوية في الجنسية ؛ لأن مهمها الاغتذاء

( القاعدة الثانية ) قال أبو الطاهر الضعة إذا كثرت أو بعد الزمان صيرت الجنس الواحد جنسين وإن قلت وقرب الزمان لم تصيره على أصل المذهب وعلى هذا فالصناعة في الجنس إما بنار وإما بغير نار فإن كانت بنار فإما أن تنقص المقدار أو لا فإن لم تنقصه صيرت الجنس الواحد جنسين كقلي القمح والخبز وإن نقصته فإن كانت بإضافة شيء إليه صيرته جنسين كتخفيف اللحم بالأبزار والطبخ بالمرقة .

وإن كانت بغير إضافة شيء لم تصيره جنسين كشي اللحم وتجفيفه بلا إبراز وطبخه من غير مرقة ومنه تجفيف التمر والزبيب وإن كانت أي الصناعة بغير نار فإن طال الزمان فقولان المشهور تأثيرها كخل التمر وخل الزبيب وإن لم يطل الزمان فالمشهور عدم التأثير والشاذ التأثير كالنبيذ من التمر والزبيب والنظر في ذلك كله إلى الأغراض في التفاوت في المقاصد والتقارب فيها هذا ما في الأصل وسلمه ابن الشاط مع زيادة من البداية وغيرها وفي البداية للحفيد واختلفوا من هذا الباب فيما تدخله الصنعة مما أصله منع الربا فيه مثل الخبز بالخبز فقال أبو حنيفة لا بأس ببيع ذلك متفاضلا ومتماثلا لأنه خرج بالصنعة عن الجنس الذي فيه الربا .

وقال الشافعي لا يجوز متماثلا فضلا عن متفاضل ؛ لأنه قد غيرته الصنعة تغيرا جهلت به مقاديره التي تعتبر فيها المماثلة ومثله لأحمد بن حنبل ففي كشاف القناع على الإقناع مع المتن ولا يصح بيع حب بدقيقه ولا بسويقه لأن كل واحد منهما مكيل ويشترط في بيع المكيل بجنسه التساوي وهو متعذر هنا ؛ لأن أجزاء الحب تنتشر بالطحن والنار [ ص: 264 ] أخذت من السويق ا هـ . المحتاج منه فانظره .

وأما مالك فالأشهر في الخبز عنده أنه يجوز متماثلا ، وقد قيل فيه إنه يجوز فيه التفاضل والتساوي وسبب الخلاف خلافهم هل الصنعة تنقله من جنس الربويات وهو قول أبي حنيفة أو لا تنقله وهو قول مالك والشافعي وخلاف من قال بهذا هل تمكن المماثلة حينئذ فيه أو لا تمكن فكان مالك يجيز اعتبار المماثلة في الخبز واللحم بالتقدير والحرز فضلا عن الوزن أي بخلاف الشافعي .

وأما إذا كان أحد الربويين لم تدخله صنعة والآخر قد دخلته الصنعة فإن مالكا يرى في كثير منها أن الصنعة تنقله من الجنس أعني من أن يكونا جنسا واحدا فيجيز فيها التفاضل وفي بعضها لا يرى ذلك وتفصيل مذهبه في ذلك عسير الانفصال فاللحم المشوي والمطبوخ عنده من جنس واحد والحنطة المقلوة عنده وغير المقلوة جنسان ، وقد رام أصحابه التفصيل في ذلك والظاهر عن مذهبه أنه ليس في ذلك قانون من قول حتى ينحصر فيه قوله فيها ، وقد رام حصرها الباجي في المنتقى ، وكذلك أيضا يعسر حصر المنافع التي توجب عنده الاتفاق في شيء من الأجناس التي يقع بها التعامل وتمييزها من التي لا توجب ذلك أعني في الحيوان والعروض والنبات وسبب العسر أن الإنسان إذا سئل عن أشياء متشابهة في أوقات مختلفة ولم يكن عنده قانون يعمل عليه في تمييزها إلا ما يعطيه بادي النظر في الحال جاوب فيها بجوابات مختلفة فإذا جاء من بعده أحد فرام أن يجري تلك الأجوبة على قانون واحد وأصل واحد عسر ذلك عليه وأنت تتبين ذلك من كتبهم ا هـ . المحتاج من البداية بزيادة .

والذي رامه الباجي في المنتقى من حصرها هو ما يفيده قوله الأصل في تبيين المنافع المقصودة التي يتبين بها معنى الجنس أن معنى الجنس عندنا في الباب أي باب البيع ما انفرد بالمنفعة المقصودة منه فإذا اختلف الشيئان في المنفعة المقصودة منهما كانا جنسين مختلفين وإن سميا باسم واحد ، وإذا اتفقا في المنفعة المقصودة وافترقا في الاسم فالذي يقتضيه قول ابن القاسم في البغال والحمير أنهما جنس واحد أن لا اعتبار باختلاف الأسماء والذي يقتضيه قول ابن حبيب أنهما أي البغال والحمير جنسان الاعتبار أيضا بالأسماء والدليل على صحة ذلك إننا إنما منعنا التفاضل في الجنس الواحد للزيادة في السلف وأجزناه في الجنسين لتعريه من ذلك فوجب أن تراعى المنفعة المقصودة من العين ؛ لأن من طلب الزيادة في السلف فإنما يطلبها مع استرجاع ما سلف وبقاء تلك المنفعة المقصودة فإذا [ ص: 265 ] استرجع ما فيه منفعة أخرى بغير منفعة العين التي سلف لم تحصل له الزيادة في السلف ولذلك جوزنا التفاضل بين التمر العربي والتمر الهندي أي المعروف الآن بالجمر وبين الجوز الهندي والذي ليس بهندي وفرع على هذا ثلاثة مطالب

( المطلب الأول ) إن اختلاف المنافع في الجنس يكون على ضربين

( أحدهما ) أن تختلف للصغر والكبر

( والثاني ) أن تختلف للتناهي في المنفعة المقصودة من ذلك الجنس وعدم التناهي فأما الصغر والكبر فإنه يختلف باختلاف جنس الحيوان ؛ لأنه إما أن يكون مما تصح فيه الحرية كبني آدم أو يكون مما لا تصح فيه الحرية فإن كان من الأول ففي الواضحة أن الرقيق صنف واحد ذكوره وإناثه صغاره وكباره عجمية وعربية قال الباجي والقياس عندي أن يكون صغيره جنسا مخالفا لكبيره ؛ لأن المنافع التي يتميز بها الجنس من التجارة والصنائع لا تصح من الصغير

( وإن كان من الثاني ) أي مما لا تصح فيه الحرية فلا يخلو إما أن يكون مما المقصود منه الأكل أو مما لا يقصد منه الأكل فإن كان مما لا يقصد منه الأكل كالخيل والبغال والحمير كان صغارها جنسا مخالفا لكبارها ؛ لأن المقصود من كبارها غير المقصود من صغارها وإن كان مما يقصد منه الأكل كالإبل والبقر والغنم والطير كان على ثلاثة أقسام

( القسم الأول ) أن يكون فيه مع ذلك أي قصد الأكل عمل مقصود كالإبل والبقر ، وهذا لا خلاف في أن صغاره مخالف لكباره

( والقسم الثاني ) أن لا يكون فيه مع ذلك عمل مقصود ولا منفعة مقصودة ، وهذا لا خلاف في أن صغاره من جنس كباره كالحجل واليمام

( والقسم الثالث ) أن لا يكون فيه مع ذلك عمل مقصود ، ولكن يكون معه فيه منفعة مقصودة من لبس ونحوه كالغنم وفي هذا روى ابن المواز عن مالك روايتين

( إحداهما ) لا يختلف جنسها في الصغر والكبر ؛ لأن المقصود من هذا الحيوان الأكل ويستوي في ذلك صغاره وكباره

( والثانية ) يختلف جنسها بالصغر والكبر ؛ لأن المقصود من كبار الغنم الدر والنسل وهو منفعة مقصودة كالعمل في الإبل والبقر ، وكذلك الدجاج قال ابن القاسم كلها صنف ذكورها وإناثها ، وقال أصبغ لا يسلم في بعض إلا الدجاج ذات البيض فإنها صنف تسلم الدجاجة البيوض أو التي فيها بيض في الديكين

( المطلب الثاني ) السن الذي هو حد بين الصغر والكبر أن يبلغ حد الانتفاع بها المنفعة المقصودة منها وفيما تصح فيه الحرية كالرقيق إن فرقنا بين صغارهم وكبارهم أن يبلغ سن ما يطيق التكسب بعمله أو تجارته وذلك عند الباجي الخمسة عشر سنة ونحوها أو الاحتلام وفي الإبل روى ابن المواز عن مالك لا خير في ابنتي [ ص: 266 ] مخاض في حقة ولا حقة في جذعتين فيحتمل أنه منع ابنتي مخاض في حقة ؛ لأنهما من سن الصغر ومنع حقة في جذعتين على رواية من منع صغيرا في كبير فإن الجذع أول أسنان الكبير في الإبل ويحتمل أنه منع بنتي مخاض في حقة على رواية من منع صغيرين في كبير ومنع حقة في جذعتين ؛ لأنهما من سن الكبر فتكون الحقة في حيز الكبير ؛ لأن ذلك سن يستعمل في المنفعة المقصودة وهو الحمل وفي ذكور البقر أن يبلغ حد الحرث وفي إناثها على قول ابن القاسم مثل ذلك وعلى قول ابن حبيب أن يبلغ سن الوضع واللبن وذلك أن المنفعة المقصودة من البقر القوة على الحرث ؛ لأنه العمل الذي تتخذ له ولا خلاف في ذكورها .

وأما إناثها فحكى ابن حبيب أن المقصود منها كثرة اللبن والظاهر من مذهب ابن القاسم أن حكمها حكم الذكور والفرق بين إناث البقر وإناث الغنم أن إناث البقر لها منفعة لا تخص بذكورها ، بل توجد أيضا في إناثها وإناث الغنم ليس فيها شيء من ذلك فإذا قلنا برواية ابن حبيب جاز تسليم البقرة الكثيرة اللبن .

وإن كانت قوية على الحرث في الثور ، وأما الغنم فمعز وضأن فالمعز من حيث إنها تختلف بكثرة اللبن ؛ لأنه المقصود منها إن فرقنا بين صغارها وكبارها حد الكبير أن يضع مثلها ويكون فيها اللبن ويجب على هذا أن يكون ذكورها من جنس صغارها ؛ لأنه ليس فيها غير اللحم إلا النزو ولا اعتبار به في اختلاف الجنس كالخيل والحمر والضأن فيها رواية يحيى عن ابن القاسم أن كثرة اللبن لا يكاد يتباين إلا في الماعز .

وأما الضأن فمتقاربة في اللبن وقول ابن القاسم في المدونة أن اللبن معتبر في الغنم من غير تفصيل ووجه ذلك أن هذا حيوان ذو لبن ولا يقصد به العمل فوجب أن يختلف جنسه بكثرة اللبن وقلته كالماعز فافهم ، وأما الطير فضربان ما يقصد منه البيض وما لا يقصد منه البيض ذكوره وإناثه وصغاره وكباره جنس واحد وما يقصد منه البيض كالدجاج اختلف أصحابنا فيه فروى عيسى عن ابن القاسم ليس مما يختلف فيه الجنس لوجهين

( الأول ) أن البيض في الدجاج ليس مما يقصد بالاقتناء له في الأغلب وإنما يقصد باللحم وذلك متساو في جميعها

( والثاني ) أن هذه ولادة والولادة لا يعتبر بها في الجنس قلت أو كثرت كسائر الحيوان ، وقال أصبغ يختلف به الجنس ووجه أن البيض معنى مقصود من هذا الجنس من الحيوان كاللبن في الغنم

( المطلب الثالث ) أن المنفعة المقصودة من العبد أن يكون قادرا على التكسب بمعنى يستفاد في التعليم لا يكون شائعا في الجنس كالتجارة والصناعة فالتجارة والصناعة كالجزارة والبناء والخياطة مع الفصاحة والحساب جنس مقصود [ ص: 267 ] كذلك والكتابة والقراءة إذا تقدمها نفاذ يمكنه التكسب بها وهكذا ما جرى هذا المجرى .

وليس كذلك الأعمال المعتادة التي يعملها أكثر الناس كالحرث والحصاد في الرجال والغزل في النساء ، فليس من يعملها بجنس يباين به من لا يعمل ذلك العمل ؛ لأنه لما كان هذا العمل معتادا يمكن أكثر هذا الجنس كان بمنزلة المشي وسائر أنواع التصرف المعتاد .

وأما الصناعة في الإماء فكالطبخ والخبز والرقم والنسج وكل نوع من ذلك مخالف للآخر إلا الطبخ والخبز فإنه صناعة واحدة وجنس واحد ، وأما الكتابة فروى محمد عن ابن القاسم ليست بجنس في الإماء وروى عيسى عنه أنها إن كانت فائقة فيها إنه جنس تبين به من غيرها وفي كونهما قولا واحدا بحملهما على أن المراد أن النفاذ في ذلك والتقدم حتى يمكن التكسب به جنس مقصود وإن الكتابة اليسيرة التي لا يمكن الاكتساب بها ليست بجنس مقصود أو قولين بحمل الأولى على أن المراد أنها ليست بجنس في الإماء مع النفاذ بخلاف العبيد والثانية على أن المراد أن حكم الإماء في الكتابة حكم العبيد وجهان وروى عيسى أن ابن القاسم أن الجمال ليس بجنس ووجه أنه معنى لا يتكسب به الإماء وروى محمد عن أصبغ أنه جنس مقصود وكان بعض فقهاء القرويين يحكي أن ابن وهب .

رواه ووجهه من أن الأثمان تختلف باختلافه وتتفاوت بتفاوته ، وليس الغزل ولا عمل الطيب بجنس ؛ لأن الغزل معتاد في النساء شامل وعمل الطيب ليس مما يكاد أن تنفرد بالتكسب به ، بل ذلك شائع في جميع النساء ، وهذا معنى ما احتج به ابن المواز في هذه المسألة والمقصود من الخيل السبق والجودة ؛ لأنها بها تباين سائر الحيوان المتحد فإذا كان سابقا فائقا ، فليس من جنس ما ليس بسابق من الخيل والمقصود من الإبل القوة على الحمل فإن كان مما يباين غيرها في القوة على ذلك فهو من غير جنسه ، وليس السبق بمقصود فيها ؛ لأنها لا تراد للسبق ، وكذلك لا يسهم لها وإن جاز أن يكون منها ما يساق فإن ذلك ليس بمنفعة أفضل هذا الجنس وأغلبه ألا ترى أن من الخيل ما تكون فيه القوة على الحمل ولا يتخذ لذلك ولا يتميز به في الجنس عما ليس بقوي على الحمل ؛ لأن الحمل ليس بمقصود من أفضل هذا الجنس ولا أكثر .

وأما البغال والحمير فقال ابن القاسم إن البغال كلها مع الحمر المصرية جنس مخالف للأعرابية ولا يختلف بالسير والقيم وإنما تختلف بالصغر والكبر ووجهه أن المقصود منها الركوب للجمال وهي متقاربة فيه ، وقال ابن حبيب تختلف باختلاف السير ؛ لأن السير هو المقصود منها فيجب أن تختلف باختلافه قال فأبى ابن القاسم [ ص: 268 ] أن الأسماء بها ، فلما اتفقت في المعنى المقصود منها كانت جنسا واحدا وإن لم يشملها اسم واحد .

وهذا أشبه بمذهب مالك رحمه الله ووجه ما قاله ابن حبيب أن اختلاف الأسماء الخاصة يوجب اختلاف الجنس وإنما يراعى اختلاف المنافع واتفاقها في الجنس الواحد ولا خلاف في أن المقصود من ذكور البقر القوة على الحرث وهل هو كذلك في إناثها أو المقصود منها كثرة اللبن قولان لابن القاسم وابن حبيب والمقصود من المعز كثرة اللبن وفي كون الضأن كذلك أولا روايتا سحنون ويحيى عن ابن القاسم والمقصود من الطير اللحم فقط وفي كون البيض كالدجاج معنى مقصودا من هذا الجنس من الحيوان أولا قول أصبغ ورواية عيسى عن ابن القاسم ا هـ . ملخصا مع إصلاح .

ولا يخفاك أن ما بنى الأصل عليه الفرق بين قاعدة اتحاد الجنس وتعدده في باب ربا الفضل من القاعدتين المذكورتين مع ما ذكره الباجي في المنتقى هو القانون الذي ينحصر فيه أقوال مالك في الربويات وتنحصر فيه المنافع التي توجب عنده الاتفاق في شيء من الأجناس التي يقع بها التعامل كالحيوان والعروض والنبات ويحصل به تفصيل الأقوال وتميز تلك المنافع من التي لا توجب ذلك الاتفاق بدون أدنى عسر ويتحد الجواب في تمييزها فتأمل بإنصاف هذا والجنس الذي يمتنع في أنواعه التفاضل عند الإمام أحمد بن حنبل كما الإقناع وشرحه كشاف القناع للشيخ منصور بن إدريس الحنبلي هو ما له اسم خاص يشمل أنواعا أي الجنس هو الشامل لأشياء مختلفة بأنواعها والنوع هو الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها فكل نوعين اجتمعا في اسم خاص فهو جنس كذهب وأنواعه المغربي والدكروري وفضة وأنواعها الريال والبنادقة ونحوها وبر وأنواعه البحيري والصعيدي أي والبطراوي وشعير كذلك وتمر وأنواعه البرني والمعقلي والصيحاني وغيرها وملح وأنواعه المنزلاوي والدمياطي وكل شيئين فأكثر أصلهما واحد فهما جنس واحد وإن اختلفت مقاصدهما كدهن ورد ودهن بنفسج ودهن زنبق ودهن ياسمين ودهن بان إذا كانت كلها من دهن واحد كالشيرج فهي جنس واحد لاتحاد أصلها وإنما طيبت بهذه الرياحين فنسبت إليها فلم تصر أجناسا ، وقد يكون الجنس الواحد مشتملا على جنسين كالتمر يشتمل على النوى وما عليه وهما جنسان بعد النزع لأن كلا منهما اسم خاص يشمل أنواعا وكاللبن يشتمل على المخيض [ ص: 269 ] والزبد وهما جنسان لما تقدم فما دام التمر والنوى أو المخيض والزبد متصلين اتصال خلقة فهما جنس واحد لاتحاد الاسم وإذ ميز أحدهما عن الآخر صارا جنسين .

ولو خلطا يجوز التفاضل بينهما وفروع الأجناس أجناس كأدقة وأخباز وأدهان وخلول ؛ لأن الفرع يتبع أصله ، فلما كانت أصول هذه أجناسا كانت هذه أجناسا إلحاقا للفروع بأصولها فعلى هذا دقيق الحنطة جنس وخبزها جنس ودقيق الشعير جنس وخبزه جنس ودهن السمسم جنس ودهن الزيتون جنس وخل التمر جنس وخل العنب جنس وهكذا فعسل النحل وعسل القصب جنسان واللحوم أجناس باختلاف أصولها ؛ لأنها فروع أصولها وهي أجناس فكانت أجناسا كالأخباز ، وكذلك اللبن أجناسا باختلاف أصوله فضأن ومعز نوعا جنس لا يباع أحدهما بالآخر إلا مثلا بمثل يدا بيد ، وكذا البقر والجواميس والبخاتي والعراب وسمين ظهر وسمين جنب ولحم أحمر جنس واحد يتناوله اسم اللحم والشحم والألية والكبد والطحال بكسر الطاء والرئة والرءوس والأكارع والدماغ والكرش والمعي والقلب والجلود والأصواف والعظام ونحوها أجناس ؛ لأنها مختلفة في الاسم والخلقة فكانت أجناسا كبهيمة الأنعام فلا يحرم التفاضل بين أجناسها ، ولو شحما بلحم ؛ لأنهما جنسان كالنقدين ا هـ . المحتاج منه والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية