الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت ) أي وترى أيها الرسول أو أيها السامع كثيرا من هؤلاء اليهود ، الذين اتخذوا دين الحق هزؤا ولعبا ، يسارعون فيما هم فيه من قول الإثم وعمله ، وهو كل ما يضر قائله وفاعله في دينه ودنياه ، وفي العدوان وهو الظلم وتجاوز الحقوق والحدود الذي يضر الناس ، وفي أكل السحت وهو الدنيء من المحرم - كما تقدم - ولم يقل : يسارعون إلى ذلك ; لأن المسارع إلى الشيء يكون خارجا عنه ، فيقبل عليه بسرعة ، وهؤلاء غارقون في الإثم والعدوان ، وإنما [ ص: 373 ] يسارعون في جزئيات وقائعهما ، كلما قدروا على إثم أو عدوان ابتدروه ، ولم ينوا فيه ( لبئس ما كانوا يعملون ) تقبيح للعمل الذي كانوا يعملونه في استغراقهم في المعاصي المفسدة لأخلاقهم ، وللأمة التي يعيشون فيها إن لم تنههم وتزجرهم على أنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلم يكن يقوم به أحد منهم ، لا العلماء ولا العباد ; إذ كان الفساد قد عم الجميع ; ولذلك قال : ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ) أي هلا ينهى هؤلاء المسارعين فيما ذكر أئمتهم في التربية والسياسة وعلماء الشرع والفتوى فيهم عن قول الإثم كالكذب ، وأكل السحت كالرشوة ! لبئس ما كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار من الرضا بهذه الأوزار ، وترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . روي عن ابن عباس أنه قال : ما في القرآن أشد توبيخا من هذه الآية ; أي فهي حجة على العلماء إذا قصروا في الهداية والإرشاد ، وتركوا النهي عن البغي والفساد ، وإذا كان حبر الأمة ابن عباس يقول هذا ، فما قول علماء السوء الذين أضاعوا الدين وأفسدوا الأمة بترك هذه الفريضة ؟ ومن العجائب أننا نقرأ توبيخ القرآن لعلماء اليهود على ذلك ، ونعلم أن القرآن أنزل موعظة وعبرة ، ثم لا نعتبر بإهمال علمائنا لأمر ديننا ، وعناية علمائهم في هذا العصر بأمر دينهم ودنياهم ، وسيأتي بسط هذا المعنى إن شاء الله تعالى .

                          ومن مباحث البلاغة في التعبير التفرقة بين " يعملون " ، و " يصنعون " قال الراغب : الصنع : إجادة الفعل ; فكل صنع فعل ، وليس كل فعل صنعا ، ولا ينسب إلى الحيوانات والجمادات كما ينسب الفعل ، انتهى . وقال غيره : الصنع أخص من العمل ; فهو ما صار ملكة منه ، والعمل أخص من الفعل ; لأنه فعل بقصد ، وقال في الكشاف : كأنهم جعلوا " آثم " من مرتكبي المناكير ; لأن كل عامل لا يسمى صانعا ، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه ، وكان المعنى في ذلك أن مواقع المعصية مع الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها ، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره ، فإذا فرط في الإنكار كان أشد إثما من المواقع ، انتهى . والذي أفهمه أن معاصي العوام من قبيل ما يحصل بالطبع ; لأنه اندفاع مع الشهوة بلا بصيرة ، ومعصية العلماء بترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف من قبيل الصناعة المتكلفة ; لفائدة للصانع فيها يلتمسها ممن يصنع له ، وما ترك العلماء النهي عن المنكر ، وهم يعلمون ما أخذ الله عليهم من الميثاق ، إلا تكلفا لإرضاء الناس ، وتحاميا لتنفيرهم منهم ، فهو إيثار لرضاهم على رضوان الله وثوابه ، والأقرب أن يكون من الصنع ، لا من الصناعة ، وهو العمل الذي يقدمه المرء لغيره يرضيه به .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية