الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
8 - ( 8 ) - حديث عمر : { أنه كره الماء المشمس . وقال : إنه يورث البرص } . الشافعي عن إبراهيم بن أبي يحيى ، عن صدقة بن عبد الله ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن عمر به ، وصدقة ضعيف ، وأكثر أهل الحديث : على تضعيف ابن أبي يحيى ، لكن الشافعي كان يقول : إنه صدوق ، وإن كان مبتدعا ، وأطلق النسائي أنه كان يضع الحديث ، وقال إبراهيم بن سعد : كنا نسميه ، ونحن نطلب الحديث : خرافة ، وقال العجلي : كان قدريا معتزليا رافضيا كل بدعة فيه ، وكان من أحفظ الناس لكنه غير ثقة ، وقال ابن عدي : نظرت في حديثه فلم أجد فيه منكرا ، [ ص: 28 ] وله أحاديث كثيرة ، وقال الساجي : لم يخرج الشافعي عن إبراهيم حديثا في فرض ، إنما جعله شاهدا .

قلت : وفي هذا نظر ، والظاهر من حال الشافعي أنه كان يحتج به مطلقا ، وكم من أصل أصله الشافعي لا يوجد إلا من رواية إبراهيم . وقال محمد بن سحنون : لا أعلم بين الأئمة اختلافا في إبطال الحجة به ، وفي الجملة : فإن الشافعي لم يثبت عنده الجرح فيه ، فلذلك اعتمده ، والله أعلم . ولحديث عمر الموقوف هذا ، طريق أخرى ، رواها الدارقطني من حديث إسماعيل بن عياش ، حدثني صفوان بن عمرو ، عن حسان بن أزهر ، عن عمر قال : { لا تغتسلوا بالماء المشمس ، فإنه يورث البرص } وإسماعيل صدوق فيما روي عن الشاميين ، ومع ذلك فلم ينفرد ، بل تابعه عليه أبو المغيرة ، عن صفوان ، أخرجه ابن حبان في الثقات في ترجمة حسان .

( قوله ) : إن الشرع أمر بالتعفير في ولوغ الكلب سيأتي الكلام عليه - إن شاء الله تعالى - بعد قليل .

9 - ( 9 ) - قوله : وسؤره نجس ، يعني الكلب ، لورود الأمر بالإراقة في خبر الولوغ .

قلت : ورد الأمر بالإراقة فيما رواه مسلم من طريق الأعمش ، عن أبي صالح وأبي رزين ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ، ثم ليغسله سبع مرات }. قال النسائي : لم يذكر فليرقه غير علي بن مسهر . وقال ابن منده : تفرد [ ص: 29 ] بذكر الإراقة فيه علي بن مسهر ، ولا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه إلا من روايته ، وقال الدارقطني : إسناده حسن ، رواته كلهم ثقات .

وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه من طريقه ولفظه : " فليهرقه " وأصل الحديث في الصحيحين من رواية مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، بلفظ : { إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات }هذا هو المشهور عن مالك ، وروي عنه : " إذا ولغ " وهذا هو لفظ أصحاب أبي الزناد ، أو أكثرهم ; إلا أنه وقع في رواية الجوزقي من رواية ورقاء بن عمر ، عن أبي الزناد بلفظ : " إذا شرب " ، وكذا وقع في عوالي أبي الشيخ من رواية المغيرة بن عبد الرحمن عنه ، والمحفوظ عن أبي الزناد من رواية عامة أصحابه : " إذا ولغ " ، وكذا رواه عامة أصحاب أبي هريرة عنه ، بهذا اللفظ ، ووقع في رواية أخرى من طريق هشام ، عن ابن أملياء عنه بلفظ : " إذا شرب " ، ولمسلم من رواية هشام ، عن محمد ، عن أبي هريرة : { إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم غسل سبع مرات ، أولاهن بالتراب }رواه الترمذي والبزار من رواية ابن أملياء فقال : " أولاهن أو أخراهن " .

وفي رواية لأبي داود ، من حديث أبان ، عن قتادة ، عن ابن أملياء : [ ص: 30 ] السابعة بالتراب " وقال البيهقي : ذكر التراب في هذا الحديث لم يروه ثقة عن أبي هريرة غير ابن أملياء . قلت : قد رواه أبو رافع عنه أيضا أخرجه الدارقطني والبيهقي وغيرهما من طريق معاذ بن هشام ، عن أبيه ، عن قتادة عنه ، لكن قال البيهقي : إن كان معاذ حفظه فهو حسن ، فأشار إلى تعليله . ورواه الدارقطني أيضا من طريق الحسن ، عن أبي هريرة ، لكنه لم يسمع منه على الأصح .

وفي الباب عن عبد الله بن مغفل . . . رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث مطرف بن عبد الله عنه ، قال : { أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب . ثم قال : ما بالهم وبال الكلاب ثم رخص في كلب الصيد ، وكلب الغنم . وقال : إذا ولغ الكلب في الإناء ، فاغسلوه سبعا ، وعفروه الثامنة بالتراب }لفظ مسلم ولم يخرجه البخاري وعكس ابن الجوزي ذلك في كتاب التحقيق فوهم ، قال ابن عبد البر : لا أعلم أحدا أفتى بأن غسلة التراب غير الغسلات السبع بالماء غير الحسن البصري انتهى . وقد أفتى بذلك أحمد بن حنبل وغيره ، وروي أيضا عن مالك ، وأجاب عنه أصحابنا بأجوبة : أحدها : قال البيهقي : بأن أبا هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره ، فروايته [ ص: 31 ] أولى ، وهذا الجواب متعقب ، لأن حديث عبد الله بن مغفل صحيح . قال ابن منده : إسناده مجمع على صحته ، وهي زيادة ثقة فيتعين المصير إليها ، وقد ألزم الطحاوي الشافعية بذلك . ثانيها : قال الشافعي : هذا الحديث لم أقف على صحته وهذا العذر لا ينفع أصحاب الشافعي الذين وقفوا على صحة الحديث ، لا سيما مع وصيته .

ثالثها : يحتمل أن يكون جعلها ثامنة لأن التراب جنس غير جنس الماء ، فجعل اجتماعهما في المرة الواحدة معدودا باثنين ، وهذا جواب الماوردي وغيره .

رابعها : أن يكون محمولا على من نسي استعمال التراب ، فيكون التقدير : اغسلوا سبع مرات إحداهن بالتراب . كما في رواية أبي هريرة ، فإن لم تعفروه في إحداهن فعفروه الثامنة ، ويغتفر مثل هذا الجمع بين اختلاف الروايات ، وهو أولى من إلغاء بعضها ، والله أعلم .

( فائدة ) : قال القرافي : سمعت قاضي القضاة صدر الدين الحنفي يقول : إن الشافعية تركوا أصلهم في حمل المطلق على المقيد في هذا الحديث : فقلت له : هذا لا يلزمهم لقاعدة أخرى ، وذلك أن المطلق إذا دار بين مقيدين متضادين وتعذر الجمع ، فإن اقتضى القياس تقيده بأحدهما قيد وإلا سقط اعتبارهما معا ، وبقي المطلق على إطلاقه ، انتهى .

وهذا الذي قاله القرافي صحيح ، ولكنه لا يتوجه هاهنا بل يمكن هنا حمل المطلق على المقيد ، وذلك أن الرواية المطلقة فيها إحداهن ، والمقيدة في بعضها أولاهن ، وفي بعضها أخراهن ، وفي بعض الروايات أولاهن أو أخراهن ، فإن حملنا أو هنا على التخيير استقام أن يحمل المطلق على المقيد ويتعين التراب في أولاهن أو أخراهن لا في ما بين ذلك ، وإن حملنا " أو " هنا على الشك امتنع ذلك ، لكن الأصل عدم الشك ، وقد وقع في الأم للشافعي وفي البويطي ما يعطي أنها على التعيين فيهما ولفظه في البويطي : " وإذا ولغ الكلب في الإناء ، غسل سبعا أولاهن أو أخراهن بالتراب ، لا يطهره غير ذلك " وبهذا جزم المرعشي في ترتيب الأقسام .

قلت : وهذا لفظ الشافعي في الأم ، وذكره السبكي في شرح المنهاج بحثا [ ص: 32 ] لكن أفاد شيخنا شيخ الإسلام : أن في عيون المسائل عن الشافعي أنه قال : إحداهن ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية