الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
فصل من هذا النوع مناسبة السور. وقد أفردت فيه جزءا لطيفا سميته مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع. وانظر إلى سورة القصص كيف بدئت بأمر موسى ونصرته، وقوله: فلن أكون ظهيرا للمجرمين القصص: 17. وخروجه من وطنه. وختمت بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بألا يكون ظهيرا للكافرين، وتسليته عن إخراجه من مكة، ووعده بالعود إليها، لقوله في أول السورة: إنا رادوه إليك القصص: 7. قال الزمخشري: وقد جعل الله فاتحة سورة المؤمنون: قد أفلح المؤمنون . وأورد في خاتمتها: إنه لا يفلح الكافرون . فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة. [ ص: 52 ] وذكر الكرماني في العجائب مثله، وقال في سورة ص: بدأها بالذكر وختمها بقوله: إن هو إلا ذكر للعالمين . وفي سورة ن بدأها بقوله: ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وختمها بقوله: ويقولون إنه لمجنون . ومنه مناسبة فاتحة السورة لخاتمة التي قبلها، حتى إن منها ما يظهر تعلقها به لفظا، عما في: فجعلهم كعصف مأكول . لإيلاف قريش . فقد قال الأخفش: اتصالها به من باب قوله: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا . وقال الكواشي في تفسير المائدة: لما ختم سورة النساء أمرا بالتوحيد والعدل بين العباد أكد ذلك بقوله: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود . وقال غيره: إذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها، ثم هو يخفى تارة ويظهر أخرى، كافتتاح سورة الأنعام بالحمد، فإنه مناسب لختام المائدة من فصل القضاء، كما قال تعالى: وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين . وكافتتاح سورة فاطر بالحمد أيضا، فإنه مناسب لختام ما قبلها من قوله تعالى: وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل . كما قال تعالى: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين . وكافتتاح سورة الحديد بالتسبيح، فإنه مناسب لختام سورة الواقعة بالأمر به. وكافتتاح سورة البقرة بقوله تعالى: الم ذلك الكتاب . فإنه إشارة إلى الصراط في قوله: اهدنا الصراط المستقيم . كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط قيل لهم: ذلك الصراط المستقيم الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب. [ ص: 53 ] وهذا معنى حسن يظهر فيه ارتباط سورة البقرة بالفاتحة. ومن لطائف سورة الكوثر أنها كالمقابلة التي قبلها، لأن السابقة وصف الله المنافق فيها بأربعة أمور: البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة، فذكر فيها في مقابلة البخل: إنا أعطيناك الكوثر، أي الخير الكثير. وفي مقابلة ترك الصلاة فصل، أي فدم عليها. وفي مقابلة الرياء لربك أي لرضاه لا للناس. وفي مقابلة منع الماعون وانحر، وأراد به التصدق بلحم الأضاحي. وقال بعضهم: لترتيب وضع السور في الصحف أسباب تطلع على أنه توقيفي صادر عن حكيم: أحدها: بحسب الحروف، كما في الخواتيم. الثاني: لموافقة أول السورة لآخر ما قبلها، كآخر الحمد في المعنى وأول البقرة. الثالث: للوزان في اللفظ، كآخر " تبت" وأول " الإخلاص ". الرابع: لمشابهة جملة السورة لجملة أخرى كالضحى و" ألم نشرح ". قال بعض الأئمة: وسورة الفاتحة تضمنت الإقرار بالربوبية والالتجاء إليه في دين الإسلام، والصيانة عن دين اليهودية والنصرانية. وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين. وآل عمران تكملة المقصود، فالبقرة بمنزلة إقامة الدين على الحكم، وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم، ولهذا ورد فيه ذكر المتشابه لما تمسك به النصارى. وأوجب الحج في آل عمران. وأما في البقرة فذكر أنه مشروع وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه، وكان خطاب النصارى في آل عمران أكثر، كما أن خطاب اليهود في البقرة أكثر، لأن التوراة أصل والإنجيل فرع لها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم، وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر، كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب، ولهذا كانت السور الكلية فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء، فخوطب به جميع الناس، والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين، فخوطبوا بأهل الكتاب، يا بني إسرائيل، يا أيها الذين آمنوا. [ ص: 54 ] وأما سورة النساء فتضمنت أحكام الأسباب التي بين الناس، وهي نوعان: مخلوقة لله تعالى، ومقدرة لهم، كالنسب والصهر، ولهذا افتتحت بقوله: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها . ثم قال: واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام. فانظر هذه المناسبة العجيبة بالافتتاح وبراعة الاستهلال، حيث تضمنت الآية المفتتح بها نظير السورة في أحكامه من نكاح النساء ومحرماته، والمواريث المتعلقة بالأرحام، وإن ابتداء هذا الأمر كان بخلق آدم ثم بخلق زوجه منه، ثم بث منهما رجالا كثيرا ونساء في غاية الكثرة. وأما المائدة فقد تضمنت بيان تمام الشرائع، وتكملات الدين، والوفاء بعهود الرسول، وما أخذ على الأمة، وبها تم الدين، فهي سورة التكميل، لأن فيها تحريم الصيد على المحرم الذي هو من تمام الإحرام، وتحريم الخمر الذي هو من تمام حفظ العقل والدين، وعقوبة المعتدين من السراق والمحاربين الذي هو من تمام حفظ الدماء والأموال، وإحلال الطيبات الذي هو من تمام عبادة الله، ولهذا ذكر فيها ما يختص بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، كالوضوء، والتيمم، والحكم بالقرآن على كل ذي دين، ولهذا أكثر فيها من لفظ الإتمام والإكمال، وذكر فيها أن من ارتد عوض الله بخير منه، ولا يزال هذا الدين كاملا، ولهذا ورد فيها أنها آخر ما نزل، لما فيها من إشارات الختم والتمام. وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات من أحسن الترتيب. وقال أبو جعفر بن الزبير: حكى الخطابي أن الصحابة لما اجتمعوا على جمع القرآن، ووضعوا سورة " القدر " عقب " العلق "، استدلوا بذلك على أن المراد بذلك الكناية في قوله: إنا أنزلناه في ليلة القدر الإشارة إلى قوله اقرأ. قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذا بديع جدا. [ ص: 55 ] فصل قال في البرهان: ومن ذلك افتتاح السور بالحروف المقطعة واختصاص كل واحدة بما بدئت به، حتى لم تكن ترد الم في موضع الر ولا حم في موضع طس. قال: وذلك أن كل سورة بدئت بحرف منها، فإن أكثر كلماتها وحروفها مماثل له، فحق لكل سورة منها ألا يناسبها غير الوارد فيها، فلو وضع " ق " موضع " ن "، لم يمكن، لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله. وسورة " ق " بدئت به لما تكرر فيها من الكلمات بلفظ القاف، من ذلك القرآن، والخلق، وتكرير القول، ومراجعته مرارا، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين، وقول العتيد والرقيب، والسابق، والإلقاء في جهنم، والتقدم بالوعد، وذكر المتقين، والقلب، والقرون، والتنقيب في البلاد، وتشقق الأرض، وحقوق الوعيد، وغير ذلك. وقد تكررت الراء في سورة يونس من الكلام الواقع فيها إلى مائتي كلمة أو أكثر، فلهذا افتتحت بالراء. واشتملت سورة " ص " على خصومات متعددة، فأولها خصومة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الكفار وقولهم: أجعل الآلهة إلها واحدا . ثم اختصام الخصمين مع داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى، ثم تخاصم إبليس في شأن آدم، ثم في شأن بنيه وإغوائهم. والم جمعت المخارج الثلاثة الحلق واللسان والشفتين على ترتيبها، وذلك إشارة إلى البداية التي هي بدء الخلق والنهاية التي هي المعاد والتوسط الذي هو المعاش من التشريع بالأوامر والنواهي. وكل سورة افتتحت بها فهي مشتملة على الأمور الثلاثة. وسورة الأعراف زيد فيها الصاد على الم لما فيها من شرح القصص: قصة آدم فمن بعده من الأنبياء، ولما فيها من ذكر: فلا يكن في صدرك حرج ، ولهذا قال بعضهم: معنى المص: ألم نشرح لك صدرك. [ ص: 56 ] وزيد في الرعد لأجل قوله: رفع السماوات ، ولأجل ذكر الرعد والبرق وغيرهما. واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن، كقوله تعالى: الم ذلك الكتاب . نزل عليك الكتاب . المص كتاب أنزل إليك . المر تلك آيات الكتاب . ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى . طسم تلك آيات الكتاب المبين . يس والقرآن الحكيم . ص والقرآن ذي الذكر . حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم . ق والقرآن المجيد . إلا في ثلاث سور: العنكبوت، والروم، ون، ليس فيها ما يتعلق به، وقد ذكرت حكمة ذلك في أسرار التنزيل. وقال الحرالي: في معنى حديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف: زاجر. وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. اعلم أن القرآن نزل عند انتهاء الخلق، وكمال كل الأمر بدءا، فكان التخلق به جامعا لانتهاء كل خلق، وكمال كل أمر، فكذلك هو قيم الكون، وهو الجامع الكامل، ولذلك كان خاتما وكتابه كذلك. وبدأ المعاد من حين ظهوره، فاستوفى هذه الجوامع الثلاث التي قد خلت في الأولين بداياتها، وتممت عنده غاياتها، بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وهي صلاح الدين والمعاد التي جمعها قوله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي. وفي كل صلاح إقدام وإحجام، فتصير الجوامع الثلاثة ستة هي حروف القرآن الستة، ثم وهب حرفا جامعا شائعا فردا لا زوج له، فتمت سبعة. فأدنى تلك الحروف هو صلاح الدنيا، فلها حرفان: حرف الحرام الذي لا تصلح النفس والبدن إلا بالتطهر منه، لبعده عن تقويمها. والثاني حرف الحلال [ ص: 57 ] الذي تصلح النفس والبدن عليه لموافقته تقويمها، أصل هذين الحرفين في التوراة، وتمامهما في القرآن. ويلي ذلك حرفا صلاح المعاد: أحدهما حرف الزجر والنهي الذي لا تصلح الآخرة إلا بالتطهر منه لبعده عن حسناها، والثاني حرف الأمر الذي لا تصلح الآخرة إلا عليه لتقاضيه لحسناها، وأصل هذين الحرفين في الإنجيل وتمامهما في القرآن. ويلي ذلك حرفا صلاح الدين: أحدها حرف المحكم الذي بان للعبد فيه خطاب ربه، والثاني حرف المتشابه الذي لا يتبين للعبد فيه خطاب ربه من جهة قصور عقله عن إدراكه، فالحروف الخمسة للاستعمال، وهذا الحرف السادس للوقوف والاعتراف بالعجز، وأصل هذين الحرفين في الكتب المتقدمة كلهما، وتمامهما في القرآن. ويختص القرآن بالحرف السابع، وهو حرف المثل المبين للمثل الأعلى. ولما كان هذا الحرف هو الحمد افتتح الله به القرآن، وجمع فيه جوامع الحروف السبعة التي بثها في القرآن، فالآية الأولى تشتمل على حرف الحمد الشائع، والثانية تشتمل على حرفي الحلال والحرام اللذين أقامت الرحمانية بها الدنيا والرحيمية الآخرة. والثالثة تشتمل على أمر الملك القيم على حرفي الأمر والنهي اللذين يبدو أمرها في الدين. والرابعة تشتمل على حرفي الحكم في قوله: إياك نعبد، والمتشابه في قوله: وإياك نستعين. ولما افتتح أم القرآن بالسابع الجامع الموهوب ابتدئت البقرة بالسادس المعجوز عنه، وهو المتشابه. انتهى كلام الحرالي. والمقصود منه هو الأخير. على أني أقول: المناسبة في ابتداء البقرة بـ "الم" أحسن مما قال، وهو أنه لما ابتدئت الفاتحة بالحرف المحكم الظاهر لكل أحد الذي لا يعذر أحد في فهمه - ابتدئت البقرة بمقابله، وهو الحرف المتشابه البعيد التأويل أو المستحيلة. ومن هذا النوع مناسبة أسماء السور لمقاصدها. وفي العجائب للكرماني: إنما سميت السور السبع " حم " على الاشتراك في [ ص: 58 ] الاسم لما بينهن من التشاكل الذي اختصت به، وهو أن كل واحدة منها استفتحت بالكتاب أو صفة الكتاب، مع تفاوت المقادير في الطول، والقصر، وتشاكل الكلام في النظام.

التالي السابق


الخدمات العلمية