الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2072 129 - حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه، ولا تبيعوا الثمر بالتمر.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: ولا تبيعوا الثمر بالتمر فإنه بيع المزابنة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "التمر" بالتاء المثناة من فوق وسكون الميم، وقوله: "بالثمر" بالثاء المثلثة وفتح الميم، وهو الرطب.

                                                                                                                                                                                  ورجاله قد ذكروا غير مرة، وعقيل بضم العين، والحديث أخرجه مسلم، عن محمد بن رافع، عن حجين بن المثنى، عن الليث.

                                                                                                                                                                                  قوله: "يبدو صلاحه" أي: يظهر، قال النووي: "يبدو" بلا همز، ومما ينبغي أن ينبه عليه أنه يقع في كثير من كتب المحدثين وغيرهم حتى "يبدوا" هكذا بألف في الخط، وهو خطأ، والصواب حذفها في مثل هذا للناصب، وإنما اختلفوا في إثباتها إذا لم يكن ناصب، مثل "زيد يبدوا" والاختيار حذفها أيضا، ويقع مثله في "حتى تزهوا" وصوابه حذف الألف.

                                                                                                                                                                                  قوله: "صلاحه" هو ظهور حمرته أو صفرته، وفي رواية لمسلم في حديث جابر: "حتى يطعم" وفي رواية: حتى يشقه، والإشقاق أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شيء، وفي رواية: "حتى تشقح" وقال سعيد بن مينا الراوي عن جابر: "يحمار ويصفار ويؤكل منها" وفي رواية للطحاوي في حديث ابن عباس: "حتى يؤكل منه" وفي رواية له في حديث جابر: "حتى يطيب" وفي رواية له في حديث عمر - رضي الله تعالى عنه -: "حتى يصلح" وفي رواية لمسلم في حديث ابن عمر: "ما صلاحه؟ قال: تذهب عاهته".

                                                                                                                                                                                  ثم اعلم أن بدو الصلاح متفاوت بتفاوت الأثمار، فبدو صلاح التين أن يطيب وتوجد فيه الحلاوة ويظهر السواد في أسوده والبياض في أبيضه، وكذلك العنب الأسود بدو صلاحه أن ينحو إلى السواد وأن ينحو أبيضه إلى البياض مع النضج، وكذلك الزيتون بدو صلاحه أن ينحو إلى السواد، وبدو صلاح القثاء والفقوص أن ينعقد ويبلغ مبلغا يوجد له طعم، وأما البطيخ فأن ينحو ناحية الاصفرار والطيب، وأما اللوز فروى أشهب وابن نافع، عن مالك أنه يباع إذا بلغ في شجره قبل أن يطيب، فإنه لا يطيب حتى ينزع، وأما الجزر واللفت والفجل والثوم والبصل فبدو صلاحه إذا استقل ورقه وتم وانتفع به، ولم يكن في قلعه فساد، والبر والفول والجلبان والحمص والعدس إذا يبس، والياسمين وسائر الأنوار أن يفتح أكمامه ويظهر نوره، والقصيل والقصب والقرطم إذا بلغ أنه يرعى دون فساد.

                                                                                                                                                                                  (ذكر مذاهب العلماء في هذا الباب) قال النووي: فإن باع الثمر قبل بدو صلاحه بشرط القطع صح بالإجماع، قال أصحابنا: ولو شرط القطع ثم لم يقطع فالبيع صحيح ويلزمه البائع بالقطع، فإن تراضيا على إبقائه جاز، وإن باع بشرط التبقية فالبيع باطل بالإجماع؛ لأنه ربما تتلف الثمرة قبل إدراكها، فيكون البائع قد أكل مال أخيه بالباطل، وأما إذا شرط القطع فقد انتفى هذا الضرر، وإن باعها مطلقا بلا شرط القطع فمذهبنا ومذهب الجمهور أن البيع باطل، وبه [ ص: 299 ] قال مالك، وقال أبو حنيفة: يجب شرط القطع. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: مذهب الثوري وابن أبي ليلى والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق عدم جواز بيع الثمار في رءوس النخل حتى تحمر أو تصفر.

                                                                                                                                                                                  ومذهب الأوزاعي وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد جواز بيع الثمار على الأشجار بعد ظهورها، وبه قال مالك في رواية، وأحمد في قول، وحجتهم في هذا ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع " وزاد الترمذي : ومن باع عبدا وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع ، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وجه التمسك به أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - جعل فيه تمر النخل لبائعها إلا أن يشترط المبتاع فيكون له باشتراطه إياها ويكون ذلك مبتاعا لها، وفي هذا إباحة بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها; لأن كل ما لا يدخل في بيع غيره إلا بالاشتراط هو الذي يكون مبيعا وحده، وما لا يدخل في بيع غيره من غير اشتراط هو الذي لا يجوز أن يكون مبيعا وحده.

                                                                                                                                                                                  قوله: قد أبرت، من قولهم: فلان أبر نخله إذا لقحه، والاسم منه الإبار كالإزار، وأجابوا عن الحديث المذكور أن المراد منه البيع قبل أن يتكون، فيكون بائعها بائعا بما ليس عنده، وقد نهى رسول الله عن ذلك، وقال الطحاوي رحمه الله ما ملخصه: إن قوما قالوا: إن النهي المذكور ليس للتحريم ولكنه على المشورة منه عليهم لكثرة ما كانوا يختصمون إليه فيه، ورووا في ذلك عن زيد بن ثابت قال: كان الناس في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يتبايعون الثمار، فإذا جد الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع إنه أصاب الثمر العفن والدمان وأصابه قشام، عاهات يحتجون بها فقال - صلى الله تعالى عليه وسلم - لما كثرت عنده الخصومة في ذلك: "لا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر " كالمشورة يشير بها لكثرة خصومتهم، فكان نهيه عن ذلك على هذا المعنى، وأخرج الطحاوي حديث زيد هذا بإسناد صحيح، وأخرجه النسائي أيضا والبيهقي.

                                                                                                                                                                                  قوله: العفن بفتحتين الفساد، وأما بكسر الفاء فهو من الصفات المشبهة، والدمان بفتح الدال المهملة وتخفيف الميم، وفي آخره نون، هو فساد التمر قبل إدراكه حتى يسود، ويروى باللام وبالراء في موضع النون، والقشام بضم القاف داء يقع في الثمرة فتهلك به.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية