الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى باب في صفة الغسل ( إذا أراد الرجل أن يغتسل من الجنابة فإنه يسمي الله تعالى وينوي الغسل من الجنابة أو الغسل لاستباحة أمر لا يستباح إلا بالغسل ، كقراءة القرآن والجلوس في المسجد ، ويغسل كفيه ثلاثا قبل أن يدخلهما في الإناء ، ثم يغسل ما على فرجه من الأذى ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم يدخل أصابعه العشر في الماء فيغرف غرفة يخلل بها أصول شعره من رأسه ولحيته ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات ثم يفيض الماء على سائر جسده ويمر يديه على ما قدر عليه من بدنه ، ثم يتحول من مكانه ثم يغسل قدميه ، لأن عائشة وميمونة رضي الله عنهما وصفتا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك . والواجب من ذلك ثلاثة أشياء : النية ، وإزالة النجاسة - إن كانت - وإفاضة الماء على البشرة الظاهرة وما عليها من الشعر حتى يصل الماء إلى ما تحته ، وما زاد على ذلك سنة لما روى جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : { تذاكرنا الغسل من الجنابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أما أنا فيكفيني أن أصب على رأسي ثلاثا ثم أفيض بعد ذلك على سائر جسدي } " ) .

                                      [ ص: 215 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديثا عائشة وميمونة صحيحان رواهما البخاري ومسلم في صحيحيهما مفرقين ، وفيهما مخالفة يسيرة في الألفاظ ، وحديث جبير بن مطعم رواه أحمد بن حنبل في مسنده بإسناده الصحيح كما ذكره المصنف ، ورواه البخاري ومسلم في صحيحيهما مختصرا ، ولفظه فيهما : " أما أنا فأفيض على رأسي ثلاث مرات " فعلى هذا لا دلالة فيه لمسألة الكتاب ، وعلى رواية أحمد وجه الدلالة ظاهر ، وقد جاء في الصحيحين في حديثي عائشة وميمونة الاقتصار على إفاضة الماء ، وقوله : يحثي ثلاث حثيات صحيح ، يقال : حثيت أحثي حثيا وحثيات وحثوت أحثو حثوا وحثوات لغتان فصحيحتان ، وسائر جسده أي باقيه وجبير بن مطعم بضم الميم وكسر العين وهذا [ ص: 210 ] لا خلاف فيه ، وإنما نبهت على كسر العين مع أنه ظاهر لأني رأيت بعض من جمع في ألفاظ الفقه قال يقال : بفتح العين وهذا غلط لا شك فيه ولا خلاف وكنية جبير أبو محمد ، أسلم سنة سبع وقيل ثمان ، وكان من سادات قريش وحلمائهم ، توفي بالمدينة سنة أربع وخمسين رضي الله عنه .

                                      ( أما أحكام الفصل ) فإذا أراد الرجل الغسل من الجنابة سمى الله تعالى ، وصفة التسمية كما تقدم في الوضوء : بسم الله ، فإذا زاد الرحمن الرحيم جاز ولا يقصد بها القرآن ، وهذا الذي ذكرناه من استحباب التسمية هو المذهب الصحيح ; وبه قطع الجمهور وفيه وجه حكاه القاضي حسين والمتولي وغيرهما أنه لا يستحب التسمية للجنب ، وهذا ضعيف لأن التسمية ذكر ولا يكون قرآنا إلا بالقصد كما سبق في الباب الماضي ولم يذكر الشافعي في المختصر والأم والبويطي التسمية ، وكذا لم يذكرها المصنف في التنبيه والغزالي في كتبه ، فيحتمل أنهم استغنوا بقولهم : يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ، لأن وضوء الصلاة يسمى في أوله .

                                      وينوي الغسل من الجنابة أو الغسل لاستباحة ما لا يستباح إلا بالغسل كالصلاة والقراءة والمكث في المسجد ، فإن نوى لما يباح بلا غسل فإن كان مما لا يندب له الغسل ، كلبس ثوب ونحوه لم يصح غسله عن الجنابة ، وإن كان مما يستحب له الغسل كالمرور في المسجد والوقوف بعرفة ونحوه ففيه الوجهان في نظيره في الوضوء ، أصحهما : لا يجزئه ، وقد تقدم في باب نية الوضوء بيان صفة النية ومحلها وهو القلب ، ووقتها وهو أن واجبه عند أول إفاضة الماء على جزء من بدنه ويستحب استدامتها إلى الفراغ ويستحب أن يبتدئ بالنية مع التسمية . فإن لم ينو إلا عند إفاضة الماء أجزأه ولا يثاب على ما قبلها من التسمية وغيرها على المذهب . وقال الماوردي : في ثوابه وجهان ، وقد سبق مثله في الوضوء . ولو نوت المغتسلة من انقطاع الحيض استباحة وطء الزوج ففي صحة غسلها ثلاثة أوجه سبقت في باب نية الوضوء . وأما صفة الغسل فهي كما ذكرها المصنف باتفاق الأصحاب ، ودليلها الحديث ، إلا أن أصحابنا الخراسانيين نقلوا للشافعي قولين في هذا الوضوء : [ ص: 211 ] أحدهما ) أنه يكمله كله بغسل الرجلين ، وهذا هو الأصح وبه قطع العراقيون .

                                      ( والثاني ) أنه يؤخر غسل الرجلين ، ونقله بعضهم عن نصه في البويطي ، وكذا رأيته أنا في البويطي صريحا ، وهذان القولان إنما هما في الأفضل ، وإلا فكيف فعل حصل الوضوء . وقد ثبت الأمران في الصحيح من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي روايات عائشة { أنه صلى الله عليه وسلم توضأ وضوءه للصلاة ثم أفاض الماء عليه } " وظاهر هذا أنه أكمل الوضوء بغسل الرجلين . وفي أكثر روايات ميمونة أنه صلى الله عليه وسلم " { توضأ ثم أفاض الماء عليه ، ثم تنحى ، فغسل رجليه } " وفي رواية لها للبخاري : " { توضأ وضوءه للصلاة غير قدميه ثم أفاض عليه الماء ثم نحى قدميه فغسلهما } " . وهذه الرواية صريحة في تأخير القدمين ، فعلى القول الضعيف تتأول روايات عائشة وأكثر روايات ميمونة ، على أن المراد بوضوء الصلاة أكثره ، وهو ما سوى الرجلين كما بينته ميمونة ، فهذه الرواية صريحة والباقي محتمل للتأويل فيجمع بينهما بما ذكرناه ، وعلى القول الصحيح المشهور يجمع بينهما بأن الغالب من أحواله ، والعادة المعروفة له صلى الله عليه وسلم إكمال الوضوء ، وبين الجواز في بعض الأوقات بتأخير القدمين كما توضأ ثلاثا ثلاثا في معظم الأوقات وبين الجواز بمرة مرة في بعضها .

                                      وعلى هذا إنما غسل القدمين بعد الفراغ للتنظيف . قال أصحابنا : وسواء قدم الوضوء كله أو بعضه ، أو أخره أو فعله في أثناء الغسل فهو محصل سنة الغسل ، ولكن الأفضل تقديمه ، ولم يذكر الجمهور ماذا ينوي بهذا الوضوء قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله : لم أجد في مختصر ولا مبسوط تعرضا لكيفية نية هذا الوضوء إلا لمحمد بن عقيل الشهرزوري فقال : يتوضأ بنية الغسل ، قال : إن كان جنبا من غير حدث أصغر فهو كما قال ، وإن كان جنبا محدثا كما هو الغالب فينبغي أن ينوي بوضوئه هذا رفع الحدث الأصغر ، لأنا إن أوجبنا الجمع بين الوضوء والغسل فظاهر لأنه لا يشرع وضوءان ، فيكون هذا هو الواجب ، وإن قلنا بالتداخل كان فيه خروج من الخلاف . [ ص: 212 ] وقال الرافعي رحمه الله في مسألة من أحدث وأجنب : وإن قلنا يجب الوضوء وجب إفراده بالنية لأنه عبادة مستقلة . وإن قلنا لا يجب لم يحتج إلى إفراده بالنية ، وذكر صاحب البيان هذا الذي ذكره الرافعي احتمالا ولا خلاف أنه لا يشرع وضوءان ، سواء كان جنبا محدثا أم جنبا فقط وسيأتي إيضاحه بدليله في مسألة من أحدث وأجنب إن شاء الله تعالى .

                                      وأما قول المصنف : يغسل ما على فرجه من الأذى ، فكذا قاله الشافعي والأصحاب ومرادهم ما على القبل والدبر من نجاسة ، كأثر الاستنجاء وغيره وما على القبل من مني ورطوبة فرج وغير ذلك ، فالقذر يتناول الطاهر والنجس . ونقل الرافعي عن ابن كج وغيره وجهين في أن المراد بالأذى النجاسة أم المستقذر كالمني ؟ ؟ والصحيح إرادتهما جميعا . وأما قول المصنف الواجب منه ثلاثة أشياء أحدها إزالة النجاسة ، فكذا قاله شيخه القاضي أبو الطيب والماوردي في الإقناع والمحاملي في المقنع وابن الصباغ والجرجاني في التحرير والشاشي والشيخ نصر وآخرون ، ولم يعد الأكثرون إزالة النجاسة من واجبات الغسل ، وأنكر الرافعي وغيره جعلها من واجب الغسل .

                                      قالوا : لأن الوضوء والغسل سواء ، ولم يعد أحد إزالة النجاسة من أركان الوضوء ، لكن يقال إزالة النجاسة شرط لصحة الوضوء والغسل ، وشرط الشيء لا يعد منه كالطهارة وستر العورة لا يعدان من أركان الصلاة . قلت : وكلام المصنف وموافقيه صحيح ، ومرادهم لا يصح الغسل ، وتباح الصلاة به إلا بهذه الثلاثة ، وهكذا يقال في الوضوء . وأما النية وإفاضة الماء على جميع البدن شعره وبشره فواجبان بلا خلاف ، وسواء كان الشعر الذي على البشرة خفيفا أو كثيفا يجب إيصال الماء إلى جميعه وجميع البشرة تحته بلا خلاف ، بخلاف الكثير في الوضوء ، لأن الوضوء متكرر فيشق غسل بشرة الكثيف ، ولهذا وجب غسل جميع البدن في الجنابة دون الحدث الأصغر ، ودليل وجوب إيصال الماء إلى الشعر والبشرة جميعا ما سبق من حديث جبير بن مطعم وغيره في صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 213 ] وهو بيان للطهارة المأمور بها في قوله تعالى : " { وإن كنتم جنبا فاطهروا } . وأما حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( { تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة } ) فرواه أبو داود ، ولكنه ضعيف ضعفه الشافعي ويحيى بن معين والبخاري وأبو داود وغيرهم .

                                      ويروى عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، ويروى موقوفا على أبي هريرة ، وكذا المروي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " { من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل به كذا وكذا من النار } " . قال علي : فمن ثم عاديت رأسي ، وكان يجز شعره ، فهو ضعيف أيضا والله أعلم . وأما قوله : " وما زاد على ذلك سنة " صحيح ، وقد ترك من السنن أشياء . منها استصحاب النية إلى آخر الغسل ، والابتداء بالأيامن ، فيغسل شقه الأيمن ثم الأيسر . وهذا متفق على استحبابه ، وكذا الابتداء بأعلى البدن ، وأن يقول بعد فراغه : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . صرح به المحاملي في اللباب والجرجاني والروياني في الحلية وآخرون ، واستقبال القبلة وتكرار الغسل ثلاثا ثلاثا ، وتقدم في الوضوء مستحبات كثيرة أكثرها يدخل هنا ، كترك الاستعانة والتنشيف وغير ذلك . وأما موالاة الغسل فالمذهب أنها سنة ; وقد تقدم بيانها في باب صفة الوضوء .

                                      وأما تجديد الغسل ففيه وجهان الصحيح : لا يستحب . والثاني : يستحب ، وسبق بيانه واضحا في الزوائد في آخر صفة الوضوء .

                                      ( فرع ) المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور أنه يستحب إفاضة الماء على جميع البدن ثلاث مرات ، وممن صرح به المحاملي في المقنع واللباب ، وسليم الرازي في الكفاية ، والقاضي حسين والفوراني وإمام الحرمين والمصنف في التنبيه والغزالي في البسيط والوسيط والوجيز والمتولي والشيخ نصر في كتبه الانتخاب ، والتهذيب ، والكافي والروياني في الحلية ، والشاشي في العمدة ، والرافعي في كتابيه ، وآخرون يطول ذكرهم ، [ ص: 214 ] وقد سبق في باب صفة الوضوء في مسألة تكرار مسح الرأس أن الشيخ أبا حامد نقل أن مذهب الشافعي أن تكرار الغسل مسنون . وقال إمام الحرمين : فحوى كلام الأصحاب استحباب إيصال الماء إلى كل موضع ثلاثا ، فإنا إذا رأينا ذلك في الوضوء ومبناه على التخفيف فالغسل أولى . وكذا قال الغزالي في البسيط والمتولي وآخرون : إذا استحب التكرار في الوضوء فالغسل أولى .

                                      قال المتولي والرافعي وآخرون : فإن كان ينغمس في نهر انغمس ثلاث مرات ، وشذ الماوردي عن الأصحاب فقال في باب المياه : لا يستحب تكرار الغسل ثلاثا ، وهذا الذي انفرد به ضعيف متروك ، وإنما بسطت هذا الكلام لأني رأيت جماعة من أهل زماننا ينكرون على صاحبي التنبيه والوسيط استحبابهما التكرار في الغسل ، ويعدونه شذوذا منهما ، وهذا من الغباوة الظاهرة ، ومكابرة الحس ، والنقول المتظاهرة .



                                      ( فرع ) مذهبنا أن دلك الأعضاء في الغسل وفي الوضوء سنة ليس بواجب فلو أفاض الماء عليه فوصل به ولم يمسه بيديه أو انغمس في ماء كثير أو وقف تحت ميزاب أو تحت المطر ناويا فوصل شعره وبشره أجزأه وضوءه وغسله ، وبه قال العلماء كافة إلا مالكا والمزني فإنهما شرطاه في صحة الغسل والوضوء . واحتج لهما بأن الغسل هو إمرار اليد ، ولا يقال لواقف في المطر اغتسل . قال المزني : ولأن التيمم يشترط فيه إمرار اليد فكذا هنا . واحتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه : { فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك } " ولم يأمره بزيادة ، وهو حديث صحيح سبق ذكره وسنوضحه في موضعه في التيمم إن شاء الله تعالى ، وله نظائر كثيرة من الحديث ، ولأنه غسل فلا يجب إمرار اليد فيه كغسل الإناء من ولوغ الكلب . وقولهم : " لا تسمى الإفاضة غسلا " ممنوع ، وقول المزني ممنوع أيضا ، فإن المذهب الصحيح أن إمرار اليد لا يشترط في التيمم ، كما سنوضحه في موضعه إن شاء الله تعالى



                                      [ ص: 215 ] فرع ) الوضوء سنة في الغسل وليس بشرط ولا واجب ، هذا مذهبنا ، وبه قال العلماء كافة إلا ما حكي عن أبي ثور وداود أنهما شرطاه ، كذا حكاه أصحابنا عنهما . ونقل ابن جرير الإجماع على أنه لا يجب ، ودليله أن الله تعالى أمر بالغسل ولم يذكر وضوءا . وقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة : " { يكفيك أن تفيضي عليك الماء } " وحديث جبير بن مطعم السابق في الكتاب . { وقوله صلى الله عليه وسلم للذي تأخر عن الصلاة معه في السفر في قضية المزادتين ، واعتذر بأنه جنب فأعطاه إناء وقال : اذهب فأفرغه عليك } وحديث أبي ذر : { فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك } " وكل هذه الأحاديث صحيحة معروفة ، وغير ذلك من الأحاديث . وأما وضوء النبي صلى الله عليه وسلم في غسله فمحمول على الاستحباب جمعا بين الأدلة ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية