الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) مناسبة وضع هذه الآية هنا لما قبلها وما بعدها بيان أن أهل الكتاب لم يقيموا دين الله ، وما كلفهم الله إياه ، لا وسائله ولا مقاصده ، فلا هم حفظوا نصوص الكتب كلها ، ولا هم تركوا ما عندهم منها على ظواهرها ، ولا هم آمنوا بالله واليوم الآخر على الوجه الذي كان عليه سلفهم الصالح ، ولا هم عملوا الصالحات ، كما كانوا يعملون ، اللهم إلا قليلا منهم كان مخبوءا في طيات الزمان ، أو شعاف الجبال وزوايا البلدان ، كانوا يعذبون على توحيد الله ، ويرمون بالزندقة أو الهرطقة لرفضهم [ ص: 395 ] تقاليد الكنائس ، وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة البقرة ، فليراجع تفسيرها في المفصل في جزء التفسير الأول .

                          وفي هذه الآية بحث لفظي ليس في تلك ، وهو رفع كلمة " الصابئين " وتقديمها على كلمة النصارى ; فأما الرفع ففي إعرابه وجوه ; أشهرها : أنه مبتدأ خبره محذوف ، والتقدير : " والصابئون كذلك " أو معطوف على محل اسم إن ، وقد أجاز كوفيو النحويين هذا ، وعدوه من الفصيح إذا كان اسم إن مبنيا ، كما هو هنا ، وكقولك : إنك وزيد صديقان . والبصريون يمنعونه . ومن هذا القبيل قول الشاعر :

                          وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق والإعراب صناعة يستعان بها على ضبط كلام العرب وفهمه ، والعمدة في إثبات اللغات كلها السماع من أهلها ، وقد ثبت بالسماع أن هذا الاستعمال فصيح ، ولكن ما نكتته ؟ النكتة التي كان بها رفع الصابئين فصيحا هاهنا على مخالفته نسق عطف المنصوب على المنصوب هي تنبيه الذهن إلى أن الصابئين كانوا أهل كتاب ، وإن كان حكمهم كحكم المسلمين واليهود والنصارى في تعليق نفي الخوف والحزن عنهم يوم القيامة ، بشرط الإيمان الصحيح والعمل الصحيح ، اللذين تتزكى بهما النفوس ، وتستعد لإرث الفردوس . ولما كان هذا غير معروف عند المخاطبين بهذه الآية ، وكان الصابئون غير مظنة لإشراكهم في الحكم مع أهل الكتب السماوية ، حسن في شرع البلاغة أن ينبه إلى ذلك بتغيير نسق الإعراب . فمثل هذا التغيير لا يعد فصيحا إلا في هذا التعبير ، وهو ما كان لما تغير إعرابه وأخرج عما يماثله صفة خاصة تريد التنبيه عليها . فإذا قلت : " إن زيدا وعمرا - وكذا بكر - أو بكر كذلك - قادرون على مناظرة خالد " لم يكن هذا القول بليغا إلا إذا كان بكر في مظنة العجز عن مناظرة خالد ، وأردت أن تنبه على خطأ هذا الظن ، وعلى كون بكر يقدر على ما يقدر عليه من ذلك زيد وعمرو .

                          وهاهنا قاعدة عامة في البلاغة ، تدخل في بلاغة النطق والكتابة ؛ وهي أن ما يراد تنبيه السمع أو اللحظ إليه من المفردات أو الجمل يميز على غيره ، إما بتغيير نسق الإعراب في مثل الكلام العربي مطلقا ، وإما برفع الصوت في الخطابة ، وإما بكبر الحروف ، أو تغيير لون الحبر ، أو وضع الخطوط عليه في الكتابة ، والمسلمون يكتبون القرآن في التفسير والمتون المشروحة بحبر أحمر ، وفي الطبع يضعون الخطوط فوق الكلام الذي يميزونه ; كآيات [ ص: 396 ] القرآن في بعض كتب التفسير ، ثم صار الكثيرون منهم يقلدون الإفرنج في وضع هذه الخطوط تحت الكلام الذي يريدون التنبيه عليه بتمييزه .

                          وقد تجرأ بعض أعداء الإسلام على دعوى وجود الغلط النحوي في القرآن ! وعد رفع الصابئين هنا من هذا الغلط ! وهذا جمع بين السخف والجهل ، وإنما جاءت هذه الجرأة من الظاهر المتبادر من قواعد النحو مع جهل أو تجاهل أن النحو استنبط من اللغة ، ولم تستنبط اللغة منه ، وأن قواعده إذا قصرت عن الإحاطة ببعض ما ثبت عن العرب فإنما ذلك لقصور فيها ، وأن كل ما ثبت نقله عن العرب فهو عربي صحيح ، ولا ينسب إلى العرب الغلط في الألفاظ ، ولكن قد يغلطون في المعاني ، ولم توجد لغة من لغات البشر دفعة واحدة ، وإنما تترقى اللغات وتتسع بالتدريج ، ولم يكن التجديد في مفرداتها ومركباتها ، والتصرف في أساليبها ومشتقاتها بالتشاور والتواطؤ بين جميع أفراد الأمة ولا بين الجماعات منها - إلا ما يحصل في بعض المجامع العلمية والأدبية عند بعض الإفرنج في هذا العصر - وإنما كان التصرف والتجديد من عمل الأفراد ، ولا سيما من يشتهرون بالفصاحة ; كالخطباء والشعراء . فلو لم يكن ذلك المعترض ضعيف العقل أو قوي التعصب على الإسلام لنهاه عن هذا الاعتراض رواية هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يؤمن بأنه منزل عليه من الله عز وجل ؛ فكيف وقد تلقته العرب بالقبول والاستحسان ، فكان إجماعا عليه أقوى من إقرار الأندية الأدبية ( الأكادميات ) الآن ، بل يجب أن ينهاه مثل ذلك نقله عن أي بدوي من صعاليك العرب ، ولو برواية الآحاد . وليت شعري هل يعد ذلك المتعصب الأعمى مبتكرات مثل شكسبير في الإنكليزية وفيكتور هيغو بالفرنسية من اللحن والغلط فيها ؟

                          وأما تقديم الصابئين هنا على النصارى فمن قال إن المراد بالذين آمنوا هنا المنافقون الذين ادعوا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم يرى أن نكتته الترتيب بين هذه الأصناف بالترقي من الجدير بقبول توبته - إذا صح إيمانه ودعم بالعمل الصالح - إلى الأجدر بذلك ، ويجعل النصارى أقربها إلى القبول ، ويليهم عنده الصابئون فاليهود فالمنافقون . وأنت تعلم أن العطف بالواو لا يفيد الترتيب ، بل مطلق الجمع ، فلا حاجة إلى تكلف النكتة للتقديم والتأخير .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية