الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وحسبوا ألا تكون فتنة ) أي وظنوا ظنا تمكن من نفوسهم ، فكان كالعلم في قوته أنه لا توجد ولا تقع لهم فتنة بما فعلوا من الفساد . والفتنة : الاختبار بالشدائد ; كتسلط الأمم القوية عليهم بالقتل والتخريب والاضطهاد ، وقيل المراد بها القحط والجوائح ، وليس بظاهر هنا ، وإنما المتبادر أن المراد بما أجمل هنا هو ما جاء مفصلا في أوائل سورة الإسراء ، التي تسمى سورة بني إسرائيل أيضا من قوله تعالى : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ) ( 17 : 4 ) إلى قوله : ( عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا ) الآية . فالفساد مرتين هناك هو المشار إليه هنا بقوله تعالى :

                          ( فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم ) أي فعموا عن آيات الله في كتبه ، الدالة على عقاب الله للأمم المفسدة الظالمة ، وعن سننه في خلقه المصدقة لها ، وصموا عن سماع المواعظ التي جاءهم بها الرسل وأنذروهم بها عقاب الله لمن نقض ميثاقه ، وخرج عن هداية دينه ، فاتبع هواه وظلم نفسه والناس ، فلما عموا وصموا ، وانهمكوا في الظلم والفساد ، سلط الله تعالى عليهم البابليين فجاسوا خلال الديار ، وأحرقوا المسجد الأقصى [ ص: 399 ] ونهبوا الأموال ، وسبوا الأمة وسلبوها الملك والاستقلال ، ثم رحمهم الله تعالى وتاب عليهم ، وأعاد إليهم ملكهم وعزهم ، ثم عموا وصموا مرة أخرى ، وعادوا إلى ظلمهم وإفسادهم في الأرض ، وقتل الأنبياء بغير حق ، فسلط الله تعالى عليهم الفرس ، ثم الروم ( الرومانيين ) فأزالوا ملكهم واستقلالهم .

                          أما قوله تعالى : ( كثير منهم ) فهو بدل من فاعل " عموا وصموا " أو هو الفاعل والواو علامة الجمع على لغة بعض العرب من الأزد التي يعبر النحاة بكلمة واحد من أهلها قال " أكلوني البراغيث " ، والمراد أن عمى البصيرة والختم على السمع لم يكن عاما مستغرقا لكل فرد من أفرادهم ، وإنما كان هو الكثير الغالب ، وتقدم قريبا في تفسير ( وكثير منهم ساء ما يعملون ) بيان حكمة هذا التدقيق في القرآن بنسبة الفساد للكثير أو الأكثر في الأمة ، وإنما يعاقب الله الأمم بالذنوب إذا كثرت وشاعت فيها ; لأن العبرة بالغالب ، والقليل النادر لا تأثير له في الصلاح أو الفساد العام ; ولذلك قال تعالى : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ( 8 : 25 ) وهذا هو الواقع ، وعلته ظاهرة ، وحكمته باهرة .

                          ( والله بصير بما يعملون ) الآن من الكيد لخاتم الرسل ; فاتباع الهوى قد أعماهم وأصابهم مرة أخرى ، فتركهم لا يبصرون ما جاء به من النور والهدى ، وما هو عليه من النعوت والصفات ، التي أشار إليها النبيون في بشاراتهم به ، ولا يسمعون ما يتلوه عليهم من الآيات ، وما فيها من الحجج والبينات ، وسيعاقبهم الله تعالى على ذلك بمثل ما عاقبهم على ما قبله ، وقد غفل عن هذا المعنى جمهور المفسرين ، فجعلوا ( يعملون ) بمعنى الماضي ، ونكتة التعبير به استحضار صورة أعمالهم في ماضيهم ، وتمثيلها لهم ولغيرهم في حاضرهم ، كما قلنا في تفسير ( وفريقا يقتلون ) وما قلناه أقوى وأظهر ، وإنما تحسن هذه النكتة في العمل المعين المهم الذي يراد التذكير به بعد وقوعه بجعل الزمن الحاضر مرآة للزمن الغابر ، ولا يظهر هذا الحسن في الأعمال المطلقة المبهمة .

                          ومن مباحث اللفظ أن أبا عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب قرءوا " أن لا تكون " ، والأصل حينئذ : وحسبوا أنه - أي الحال والشأن - لا تكون فتنة ; فخففت أن المشددة ، وحذف ضمير الشأن المتصل ، وأشرب الحسبان معنى العمل كما تقدم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية