الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4844 4845 ص: فإن قال قائل: إني أنفي الأمة إذا زنت ستة أشهر مثل نصف ما تنفى الحرة، وقال: لم ينف النبي -عليه السلام- النفي فيما ذكرتموه عنه من جلد الأمة إذا زنت، ولا بقوله: "ثم بيعوها" في المرة الرابعة.

                                                فكفى بهذا القائل المخالف جهلا؛ إذ قد خالف كل من تقدمه من أهل العلم، وخرج من أقاويلهم، ويقال له: بل فيما روينا عن النبي -عليه السلام- من [ ص: 444 ] قوله: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها" ثم قال في الرابعة: "فليبعها" دليل على أن لا نفي عليها; لأنه إنما علمهم في ذلك ما يفعلون بإمائهم إذا زنين، فمحال أن يكون يقصر في ذلك عن جميع ما يجب عليهن، ومحال أن يأمر ببيع من لا يقدر مبتاعه على قبضه من بائعه ولا يصل إلى ذلك إلا بعد مضي ستة أشهر.

                                                ويقال له أيضا: أنت زعمت أن قول النبي -عليه السلام- لأنيس: " اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" دليل على أن لا جلد عليها مع ذلك، وإن كان إبطال الجلد لم يذكر في هذا الحديث، وجعلت ذلك معارضا لما قد روي عن رسول الله -عليه السلام- من قوله: " الثيب بالثيب جلد مائة والرجم" فإذا كان هذا عندك دليلا على ما ذكرنا، فما تنكر على خصمك أن يكون قول النبي -عليه السلام-: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها" عنده دليلا على إبطاله النفي عن الأمة، فإن كان ما ذكرنا في السكوت عن نفي الأمة ليس يرفع النفي عنها، فما ذكرت أنت أيضا في السكوت عن الجلد مع الرجم لا يرفع الجلد عن الثيب الزاني مع الرجم، فما يلزم خصمك من قول النبي -عليه السلام-: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها" شيء إلا لزمك مثله في قول النبي -عليه السلام- لأنيس: " فإن اعترفت فارجمها".

                                                ويقال له: قد روي عن النبي -عليه السلام- في النفي في غير الزنا:

                                                ما قد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن عبد العزيز الواسطي، قال: ثنا إسماعيل بن عياش ، قال: ثنا الأوزاعي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده: " ، أن رجلا قتل عبده عمدا، فجلده النبي -عليه السلام- مائة، ونفاه سنة، ومحى سهمه من المسلمين، وأمره أن يعتق أمته".

                                                فلم يكن ما فعله رسول الله -عليه السلام- في هذا من نفيه القاتل سنة دليلا عندنا ولا عندك على أن ذلك حد واجب لا ينبغي تركه، وإنما كان على أنه للدعارة، ، لا لأنه حد واجب، فما تنكر أيضا أن يكون ما روي عن النبي -عليه السلام- مما أمر به من نفي الزاني على أنه للدعارة ، لا لأنه حد واجب ، لوجوب الجلد والرجم.

                                                [ ص: 445 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 445 ] ش: تقرير السؤال أن يقال: إن نفي الأمة عندنا قدر نصف نفي الحرة; لأن حد الأمة نصف حد الحرة، والحديث الذي احتججتم به من جلد الأمة إذا زنت لا ينافي النفي، وكذا قوله -عليه السلام-: "ثم بيعوها" لا ينافي ذلك حتى قال بعض من يتعصب لهم: إنه يبيعها في مكان ينفيها إليه.

                                                وأجاب الطحاوي عن ذلك بثلاثة أجوبة بعد أن جنى على هذا القائل بقوله: فكفى بهذا القائل المخالف جهلا .... إلى آخره.

                                                الجواب الأول: هو قوله: "ويقال له: بل فيما روينا ...." إلى آخره، بيانه أن يقال: الذي ذكرتم غير صحيح، بل الحديث يدل على أن لا نفي عليها; وذلك لأنه -عليه السلام- مأمور بالبيان وتعليم الأحكام الشرعية لأمته، منزه عن التقصير في ذلك، وقد علم بهذا الحديث أمته ماذا يفعلون بالإماء إذا زنين، ولو كان النفي واجبا كما ذكر هؤلاء لما ترك النبي -عليه السلام- بيانه هاهنا، فمن المحال أن يقصر النبي -عليه السلام- في بيان ذلك عن جميع ما يجب عليهن.

                                                وأيضا من المحال أن يأمر النبي -عليه السلام- ببيع من لا يقدر المشتري على قبضه من البائع ولا يصل إلى ذلك إلا بعد ستة أشهر.

                                                الجواب الثاني: هو قوله: "ويقال له أيضا: أنت زعمت ...." إلى آخره.

                                                وحاصل هذا: أنه معارضة بالمثل، وإلزام للخصم بمثل ما يلزم هو خصمه، وهو ظاهر.

                                                الجواب الثالث: هو قوله: "ويقال له: قد روي عن النبي -عليه السلام- في النفي في غير الزنا" بيانه أن يقال: ما ورد في هذا الباب من النفي محمول على أنه كان تأديبا لرفع الفساد لا حدا كما ينفي الإمام أهل الدعارة، ونظير ذلك نفيه -عليه السلام- في غير الزنا في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص .

                                                أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن محمد بن عبد العزيز الواسطي شيخ البخاري ، عن إسماعيل بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة وفي [ ص: 446 ] آخره شين معجمة- عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده.

                                                وأخرجه ابن ماجه: عن محمد بن يحيى ، عن ابن الطباع ، عن إسماعيل بن عياش ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده نحوه.

                                                فهذه الأشياء التي فعلها رسول الله -عليه السلام- لم تكن حدا باتفاق الخصوم، وإنما كان -عليه السلام- فعلها لأجل دعارة الرجل -أي فساده وشره- وكذلك ما روي عنه -عليه السلام- من النفي يكون على هذا المعنى، لا لأنه حد واجب كوجوب الجلد والرجم.

                                                وقد طعن البيهقي في كتابه "الخلافيات" على الطحاوي لذكره هذا الحديث في هذا المقام فقال: وهو يحتج بما هو أضعف من هذا الإسناد فيما يوافق هواه، فأما نحن فإنما تركناه لضعف إسناده.

                                                وهذا لا يقبل من البيهقي; لأن الطحاوي لم يحتج هاهنا بهذا الحديث على شيء، وإنما ذكره شاهدا لما قاله من أن النفي الذي أمر به -عليه السلام- في الزاني ليس لكونه حدا لا يجوز تركه، وإنما هو لأجل الدعارة كما ذكرناه، فسبحان الله هل بلغ حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده إلى حد لا يجوز الاستشهاد به؟! ولئن سلمنا أنه احتج به فماذا يقال فيه؟!

                                                فإن قيل: فيه أن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده: ليس بحجة.

                                                فيقال: كيف كان حجة في مواضع من "سننه" وغيره فيما وافق هواه؟! على أنا قد ذكرنا غير مرة أن حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده صحيح متصل إذا صح الإسناد إليه.

                                                [ ص: 447 ] وقال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن راهويه وأبا عبيد وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده، ما تركه أحد من المسلمين. قال البخاري: من الناس بعدهم.

                                                وإن قيل: لأجل إسماعيل بن عياش بن سليم الشامي .

                                                فيقال: ما لإسماعيل؟! فإن دحيما قال: هو في الشاميين غاية. وقال الفسوي: تكلم قوم في إسماعيل وهو ثقة عدل، أعلم الناس بحديث أهل الشام، أكثر ما تكلموا فيه، قالوا: يغرب عن ثقات الحجازيين. وقال البخاري: إذا حدث عن أهل بلده فصحيح، ولا شك أن حديثه هذا عن إمام أهل الشام وهو الأوزاعي، فافهم.




                                                الخدمات العلمية