الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              ومن يرخص في المزارعة - دون المؤاجرة - يقول : الكراء هو الإجارة ، أو المزارعة الفاسدة التي كانوا يفعلونها بخلاف المزارعة الصحيحة التي ستأتي أدلتها ، والتي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعامل بها أهل خيبر ، وعمل بها الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة من بعده .

              يؤيد ذلك : أن ابن عمر الذي ترك كراء الأرض لما حدثه رافع ، كان يروي حديث أهل خيبر رواية من يفتي به . ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة . وجميع ذلك من أنواع الغرر . والمؤاجرة أظهر في الغرر من المزارعة كما تقدم .

              ومن يجوز المؤاجرة دون المزارعة يستدل بما رواه مسلم في صحيحه عن ثابت بن الضحاك : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزارعة ، وأمر بالمؤاجرة وقال : لا بأس بها " فهذا صريح في النهي عن المزارعة ، والأمر بالمؤاجرة . ولأنه سيأتي عن رافع بن [ ص: 230 ] خديج - الذي روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم - : " أنه لم ينههم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كرائها بشيء معلوم مضمون ، وإنما نهاهم عما كانوا يفعلونه من المزارعة " .

              وذهب جميع فقهاء الحديث الجامعون لطرقه كلهم - كأحمد بن حنبل وأصحابه كلهم من المتقدمين والمتأخرين ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، وسليمان بن دواد الهاشمي ، وأبي خيثمة زهير بن حرب ، وأكثر فقهاء الكوفيين : كسفيان الثوري ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وأبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة ، والبخاري صاحب الصحيح ، وأبي داود ، وجماهير فقهاء الحديث من المتأخرين ، كابن المنذر وابن خزيمة والخطابي وغيرهم ، وأهل الظاهر وأكثر أصحاب أبي حنيفة - إلى جواز المزارعة والمؤاجرة ونحو ذلك ، اتباعا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه وأصحابه وما عليه السلف وعمل جمهور المسلمين . وبينوا معاني الأحاديث التي يظن اختلافها في هذا الباب .

              فمن ذلك : معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل خيبر هو وخلفاؤه من بعده إلى أن أجلاهم عمر . فعن ابن عمر قال : " عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع " ، أخرجاه . وأخرجا أيضا عن ابن عمر : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى أهل خيبر على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما خرج منها " . هذا لفظ البخاري ، ولفظ مسلم : " لما افتتحت خيبر سألت يهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرهم فيها على أن يعملوا على نصف ما خرج منها من الثمر والزرع ، فقال [ ص: 231 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أقركم فيها على ذلك ما شئنا . وكان الثمر على السهمان من نصف خيبر ، فيأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخمس " . وفي رواية مسلم عن عبد الله بن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم وللرسول - صلى الله عليه وسلم - شطر ثمرها " . وعن ابن عباس : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى خيبر أهلها على النصف : نخلها وأرضها " ، رواه الإمام أحمد وابن ماجه . وعن طاوس : " أن معاذ بن جبل أكرى الأرض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان على الثلث والربع ، فهو يعمل به إلى يومك هذا " رواه ابن ماجه . وطاوس كان باليمن ، وأخذ عن أصحاب معاذ الذين باليمن من أعيان المخضرمين . وقوله : " وعمر وعثمان " ، أي : كنا نفعل كذلك على عهد عمر وعثمان ، فحذف الفعل لدلالة الحال عليه ; لأن المخاطبين كانوا يعلمون أن معاذا خرج من اليمن في خلافة الصديق ، وقدم الشام في خلافة عمر ، ومات بها في خلافته . قال البخاري في صحيحه : وقال قيس بن مسلم عن أبي جعفر - يعني : الباقر - " ما بالمدينة دار هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع " ، قال : " وزارع علي ، وسعيد بن مالك ، وعبد الله بن مسعود ، وعمر بن عبد العزيز ، والقاسم ، وعروة ، وآل أبي بكر ، وآل عمر ، وآل علي ، وابن سيرين . وعامل عمر الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر ، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا " . وهذه الآثار التي ذكرها البخاري قد رواها غير واحد من المصنفين في الآثار .

              [ ص: 232 ] فإذا كان جميع المهاجرين كانوا يزارعون والخلفاء الراشدون وأكابر الصحابة والتابعين ، من غير أن ينكر ذلك منكر ، لم يكن إجماع أعظم من هذا ، بل إن كان في الدنيا إجماع فهو هذا . لا سيما وأهل بيعة الرضوان جميعهم زارعوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده إلى أن أجلى عمر اليهود إلى تيماء .

              وقد تأول من أبطل المزارعة والمساقاة ذلك بتأويلات مردودة . مثل أن قال : كان اليهود عبيدا للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين . فجعلوا ذلك مثل المخارجة بين العبد وسيده .

              ومعلوم بالنقل المتواتر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالحهم ولم يسترقهم حتى أجلاهم عمر ، ولم يبعهم ولا مكن أحدا من المسلمين من استرقاق أحد منهم .

              ومثل أن قال : هذه معاملة مع الكفار . فلا يلزم أن تجوز مع المسلمين . وهذا مردود ، فإن خيبر كانت قد صارت دار إسلام ، وقد أجمع المسلمون أنه يحرم في دار الإسلام بين المسلمين وأهل العهد ما يحرم بين المسلمين من المعاملات الفاسدة . ثم إنا قد ذكرنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل بين المهاجرين والأنصار ، وأن معاذ بن جبل عامل على عهده أهل اليمن بعد إسلامهم على ذلك ، وأن الصحابة كانوا يعاملون بذلك ، والقياس الصحيح يقتضي جواز ذلك مع عمومات الكتاب والسنة المبيحة ، أو النافية للحرج ، ومع الاستصحاب ، وذلك من وجوه .

              أحدها : أن هذه المعاملة مشاركة ، ليست مثل المؤاجرة المطلقة . فإن النماء الحادث يحصل من منفعة أصلين : منفعة العين التي لهذا ، كبدنه وبقره ، ومنفعة العين التي لهذا ، كأرضه وشجره ، [ ص: 233 ] كما تحصل المغانم بمنفعة أبدان الغانمين وخيلهم ، وكما يحصل مال الفيء بمنفعة أبدان المسلمين من قوتهم ونصرهم ، بخلاف الإجارة ، فإن المقصود فيها هو العمل ، أو المنفعة . فمن استأجر لبناء أو خياطة ، أو شق الأرض أو بذرها أو حصاد ، فإذا وافاه ذلك العمل فقد استوفى المستأجر مقصوده بالعقد ، واستحق الأجير أجره ، ولذلك يشترط في الإجارة اللازمة : أن يكون العمل مضبوطا كما يشترط مثل ذلك في المبيع . وهنا منفعة بدن العامل وبدن بقره وحديده : هو مثل منفعة أرض المالك وشجره . ليس مقصود واحد منهما استيفاء منفعة الآخر ، وإنما مقصودهما جميعا : ما يتولد من اجتماع المنفعتين . فإن حصل نماء اشتركا فيه ، وإن لم يحصل نماء ذهب على كل منهما منفعته ، فيشتركان في المغنم وفي المغرم ، كسائر المشتركين فيما يحدث من نماء الأصول التي لهم . وهذا جنس من التصرفات يخالف في حقيقته ومقصوده وحكمه الإجارة المحضة ، وما فيه من شوب المعاوضة من جنس ما في الشركة من شوب المعاوضة .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية