الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : في حكم الحداء الذي تساق به الإبل ونشيد الأعراب : كما تنشد الأعراب أو يحد قوله ومن يتل آيات الكتاب الممجد ( كما تنشد الأعراب ) في محافلهم وخلواتهم ومجامعهم وأعيادهم وحروبهم وفرحهم وسرورهم ، يقال نشد الشعر أي قرأه ، ونشد بهم هجاهم ، وتناشدوا الشعر نشد بعضهم بعضا والنشدة بالكسر الصوت ، والنشيد رفع الصوت ، والشعر المتناشد كالأنشودة والجمع أناشيد ، واستنشد [ ص: 174 ] الشعر طلب إنشاده كما في القاموس ( أو ) أي وأقبل من غير كراهة في المعتمد أن ( يحد ) الحادي ( قوله ) أي مقوله في الحداء .

قال في الإقناع وغيره : ويباح الحداء الذي تساق به الإبل ونشيد الأعراب ، وفي الإنصاف : وقيل الحداء ونشيد الأعراب كالغناء في ذلك ، وقيل يباح . انتهى .

قلت : المذهب الإباحة من غير كراهة لما تظافرت به الأخبار ، وتظاهرت به الآثار ، من إنشاد الأشعار ، والحداء في الأسفار وقد ذكر بعض العلماء الإجماع على إباحة الحداء . قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري : نقل ابن عبد البر الاتفاق على إباحة الحداء .

قال وفي كلام بعض الحنابلة إشعار بنقل خلاف فيه ومانعه محجوج بالأحاديث الصحيحة .

قال ويلتحق بالحداء غناء الحجاج المشتمل على التشوق إلى الحج بذكر الكعبة وغيرها من المشاهد ونظيره ما يحرض أهل الجهاد على القتال ، ومنه غناء المرأة لتسكين الولد في المهد . انتهى .

وقد ثبت من أنس رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدى له في السفر ، وأن أنجشة كان يحدو بالنساء ، والبراء بن مالك يحدو بالرجال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أنجشة كيف سوقك بالقوارير } .

وفي مسند الإمام أحمد حدثنا حماد عن يزيد عن سلمة يعني ابن الأكوع رضي الله عنه قال : { كان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو قال يقول :

    اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا     فاغفر فداء لك ما اقتفينا
وثبت الأقدام إن لاقينا     وألقين سكينة علينا
إنا إذا صيح بنا أتينا     وبالصياح عولوا علينا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الحادي ؟ قالوا ابن الأكوع ، قال يرحمه الله ، قال فقال رجل وجبت يا رسول الله لولا أمتعتنا به فأصيب
} الحديث رواه البخاري .

[ ص: 175 ] قال العلماء : والإبل تزيد في نشاطها وقوتها بالحداء ، فترفع آذانها وتلتفت يمناها ويسراها وتنتحب في مشيها . وذكر أصحاب الأوائل أن أول من أحدث الحداء غلام لمضر بن نزار ، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مضر فسمع صوت حاد يحدو ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ميلوا بنا إليه فقال ممن القوم ؟ فقالوا من مضر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتدرون متى كان الحداء ؟ فقالوا بأبينا وأمنا أنت يا رسول الله متى كان ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إن أباكم مضر خرج في طلب مال له فوجد غلامه قد تفرقت عليه إبله فضربه بالعصا أي على يده ، فأوجعه كما في رواية ، فعدا الغلام في الوادي وهو يصيح وايداه وايداه ، فسمعت الإبل صوته فعطفت عليه واجتمعت ، فقال مضر لو اشتق من هذا الكلام مثل هذا لكان كلاما تجتمع عليه الإبل ، فاشتق الحداء من ذلك } .

وكان سلام الحادي من العرب في الدولة العباسية يضرب المثل بحدائه ، فقال يوما للمنصور يا أمير المؤمنين مر الجمالين بأن يظمئوا الإبل ثم يوردوها الماء فإني آخذ في الحداء فترفع رءوسها وتترك الشرب ففعلوا ، فجرى ما التزم وحدا لها بقوله :

ألا يا بانة الوادي     بشاطئ نهر بغداد
شجاني فيك صياح     طروب فوق مياد
يذكرني ترنمه     ترنم رنة الشادي
إذا اسودت مثالثها     فلا تذكر أخا الهادي
وإن جاءت بنغمتها     نسينا نغمة الحادي

أخا الهادي : " إبراهيم بن المهدي أخو الرشيد عم المأمون " .

قال أصحاب الأوائل : وأول من اشتهر بالحداء في الإسلام رجل يقال له أنجشة الحادي ، يضرب المثل به ، وكان يهلك الإبل بحسن صوته . كان يحدو في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وورد في الخبر في أوائل الحداء عن مجاهد رحمه الله { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي قوما فيهم حاد يحدو فقال : ممن القوم ؟ قالوا من مضر فقال صلى الله عليه وسلم [ ص: 176 ] وأنا بن مضر ، قالوا أي العرب حدا أولا ، فذكر نحو خبر ابن عباس رضي الله عنهما إلا أنه ذهب الغلام وهو يقول وايداه وايداه هنييا هنييا ، فتحركت الإبل لذلك فسارت ونشطت ففتح الناس الحداء } .

التالي السابق


الخدمات العلمية