الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر جذيمة الأبرش

[ ص: 313 ] قال : وكان جذيمة من أفضل ملوك العرب رأيا ، وأبعدهم مغارا ، وأشدهم نكاية ، وأول من اجتمع له الملك بأرض العراق ، وضم إليه العرب ، وغزا بالجيوش ، وكان به برص فكنت العرب عنه ، فقيل : الوضاح ، والأبرش ، إعظاما له .

وكانت منازله ما بين الحيرة والأنبار وبقة وهيت وعين التمر وأطراف البر إلى العمير وخفية ، وتجبى إليه الأموال ، وتفد إليه الوفود .

وكان غزا طسما وجديسا في منازلهم من اليمامة ، فأصاب حسان بن تبع أسعد أبي كرب قد أغار عليهم فعاد بمن معه ، وأصاب حسان سرية لجذيمة فاجتاحها .

وكان له صنمان يقال لهما الضيزنان ، وكانت إياد بعين أباغ ، فذكر لجذيمة غلام من لخم في أخواله من إياد يقال له : عدي بن نصر بن ربيعة ، له جمال وظرف ، فغزاهم جذيمة ، فبعثت إياد من سرق صنميه وحملهما إلى إياد ، فأرسلت إليه : إن صنميك أصبحا فينا زهدا فيك ورغبة فينا ، فإن أوثقت لنا أن لا تغزونا دفعناهما إليك . قال : وتدفعون معهما عدي بن نصر ، فأجابوه [ ص: 314 ] إلى ذلك وأرسلوه مع الصنمين فضمه إلى نفسه وولاه شرابه .

فأبصرته رقاش أخت جذيمة فعشقته وراسلته ليخطبها إلى جذيمة ، فقال : لا أجترئ على ذلك ولا أطمع فيه . قالت : إذا جلس على شرابه فاسقه صرفا واسق القوم ممزوجا ، فإذا أخذت الخمر فيه فاخطبني إليه فلن يردك ، فإذا زوجك فأشهد القوم .

ففعل عدي ما أمرته ، فأجابه جذيمة وأملكه إياها ، فانصرف إليها فأعرس بها من ليلته وأصبح بالخلوق ، فقال له جذيمة ، وأنكر ما رأى به : ما هذه الآثار يا عدي ؟ قال : آثار العرس . قال : أي عرس ؟ قال : عرس رقاش . قال : من زوجكما ويحك ! قال : الملك . فندم جذيمة وأكب على الأرض متفكرا ، وهرب عدي ، فلم ير له أثر ولم يسمع له بذكر ، فأرسل إليها جذيمة : خبريني وأنت لا تكذبيني أبحر زنيت أم بهجين أم بعبد فأنت أهل لعبد أم بدون فأنت أهل لدون .

فقالت : لا بل أنت زوجتني امرأ عربيا حسيبا ولم تستأمرني في نفسي . فكف عنها وعذرها .

ورجع عدي إلى إياد فكان فيهم . فخرج يوما مع فتية متصيدين ، فرمى به فتى منهم في ما بين جبلين ، فتنكس فمات .

فحملت رقاش فولدت غلاما فسمته عمرا ، فلما ترعرع وشب ألبسته وعطرته وأزارته خاله ، فلما رآه أحبه وجعله مع ولده ، وخرج جذيمة متبديا بأهله وولده في سنة خصيبة ، فأقام في روضة ذات زهر وغدر ، فخرج ولده وعمرو معهم يجتنون الكمأة ، فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها ، وإذا أصابها عمرو خبأها ، فانصرفوا إلى جذيمة يتعادون ، وعمرو يقول :

هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده في فيه

.

[ ص: 315 ] فضمه جذيمة إليه والتزمه وسر بقوله وفعله ، وأمر فجعل له حلي من فضة وطوق ، فكان أول عربي ألبس طوقا .

فبينا هو على أحسن حالة إذ استطارته الجن ، فطلبه جذيمة في الآفاق زمانا فلم يقدر عليه ، ثم أقبل رجلان من بلقين قضاعة ، يقال لهما : مالك وعقيل ابنا فارج بن مالك من الشام يريدان جذيمة ، وأهديا له طرفا ، فنزلا منزلا ومعهما قينة لهما تسمى أم عمرو ، فقدمت طعاما . فبينما هما يأكلان إذ أقبل فتى عريان قد تلبد شعره وطالت أظافره وساءت حاله ، فجلس ناحية عنهما ومد يده يطلب الطعام ، فناولته القينة كراعا فأكلها ، ثم مد يده ثانية ، فقالت : لا تعط العبد كراعا فيطمع في الذراع ! فذهبت مثلا ، ثم سقتهما من شراب معها وأوكت زقها ، فقال عمرو بن عدي :

صددت الكأس عنا أم عمرو     وكان الكأس مجراها اليمينا
وما شر الثلاثة أم عمرو     بصاحبك الذي لا تصبحينا



فسألاه عن نفسه ، فقال : إن تنكراني أو تنكرا نسبي ، فإني أنا عمرو بن عدي بن تنوخية اللخمي ، وغدا ما ترياني في نمارة غير معصي .

فنهضا وغسلا رأسه وأصلحا حاله وألبساه ثيابا وقالا : ما كنا لنهدي لجذيمة أنفس من ابن أخته ! فخرجا به إلى جذيمة ، فسر به سرورا شديدا وقال : لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوق ، فما ذهب من عيني وقلبي إلى الساعة ، وأعادوا عليه الطوق ، فنظر إليه وقال : " شب عمرو عن الطوق " ، وأرسلها مثلا ، وقال لمالك وعقيل : حكمكما . قالا : حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت ، فهما ندمانا جذيمة اللذان يضربان مثلا .

[ ص: 316 ] وكان ملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف الشام عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة العمليقي من عاملة العمالقة ، فتحارب هو وجذيمة ، فقتل عمرو وانهزمت عساكره ، وعاد جذيمة سالما .

وملكت بعد عمرو ابنته الزباء ، واسمها نائلة ، وكان جنود الزباء بقايا العماليق وغيرهم ، وكان لها من الفرات إلى تدمر . فلما استجمع لها أمرها واستحكم ملكها اجتمعت لغزو جذيمة تطلب بثأر أبيها ، فقالت لها أختها ربيبة ، وكانت عاقلة : إن غزوت جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده والحرب سجال ، وأشارت بترك الحرب وإعمال الحيلة . فأجابتها إلى ذلك ، وكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها ، وكتبت إليه أنها لم تجد ملك النساء إلا قبحا في السماع وضعفا في السلطان ، وأنها لم تجد لملكها ولا لنفسها كفوا غيره .

فلما انتهى كتاب الزباء إليه استخف ما دعته إليه وجمع إليه ثقاته ، وهو ببقية من شاطئ الفرات ، فعرض عليهم ما دعته إليه واستشارهم ، فأجمع رأيهم على أن يسير إليها ويستولي على ملكها .

وكان فيهم رجل يقال له قصير بن سعد من لخم ، وكان سعد تزوج أمة لجذيمة فولدت له قصيرا ، وكان أريبا حازما ناصحا لجذيمة قريبا منه ، فخالفهم فيما أشاروا به عليه وقال : رأي فاتر ، وغدر حاضر ، فذهبت مثلا ، وقال لجذيمة : اكتبها إليها فإن كانت صادقة فلتقبل إليك وإلا لم تمكنها من نفسك وقد وترتها وقتلت أباها .

فلم يوافق جذيمة ما أشار به قصير وقال له : لا ولكنك امرؤ رأيك في الكن لا في الضح ، فذهبت مثلا .

ودعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عدي فاستشاره ، فشجعه على المسير وقال : إن نمارة قومي مع الزباء فلو رأوك صاروا معك ، فأطاعه .

[ ص: 317 ] فقال قصير : لا يطاع لقصير أمر . وقالت العرب : ببقة أبرم الأمر فذهبتا مثلا .

واستخلف جذيمة عمرو بن عدي على ملكه ، وعمرو بن عبد الجن على خيوله معه ، وسار في وجوه أصحابه ، فلما نزل الفرضة قال لقصير : ما الرأي ؟ قال : ببقة تركت الرأي ، فذهبت مثلا .

واستقبله رسل الزباء بالهدايا والألطاف ، فقال : يا قصير كيف ترى ؟ قال : خطر يسير ، وخطب كبير ، فذهبت مثلا ، وستلقاك الخيول ، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة ، وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك فإن القوم غادرون ، فاركب العصا ، وكانت فرسا لجذيمة لا تجارى ، فإني راكبها ومسايرك عليها .

فلقيته الكتائب فحالت بينه وبين العصا ، فركبها قصير ، ونظر إليه جذيمة موليا على متنها ، فقال : " ويل أمه حزما على متن العصا ! " فذهبت مثلا . وقال : " يا ضل من تجري به العصا " وجرت به إلى غروب الشمس ، ثم نفقت وقد قطعت أرضا بعيدة ، فبنى عليها برجا يقال له برج العصا ، مثل تضربه .

وقالت العرب : " خير ما جاءت به العصا " . مثل تضربه .

وسار جذيمة وقد أحاطت به الخيول حتى دخل على الزباء ، فلما رأته تكشفت ، فإذا هي مضفورة الإسب ، والإسب بالباء الموحدة هو شعر الإست ، وقالت له : " يا جذيمة أدأب عروس ترى ؟ " فذهبت مثلا . فقال : " بلغ المدى ، وجف الثرى ، وأمر غدر أرى " فذهبت مثلا . فقالت له : " أما وإلهي ما بنا من عدم مواس ، ولا قلة أواس ، ولكنها شيمة من أناس " . فذهبت مثلا . وقالت له : أنبئت أن [ ص: 318 ] دماء الملوك شفاء من الكلب . ثم أجلسته على نطع ، وأمرت بطست من ذهب ، فأعد له ، وسقته الخمر حتى أخذت منه مأخذها ثم أمرت براهشيه فقطعا ، وقدمت إليه الطست ، وقد قيل لها : إن قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه . وكانت الملوك لا تقتل بضرب الرقبة إلا في قتال تكرمة للملك . فلما ضعفت يداه سقطتا ، فقطر من دمه في غير الطست ، فقالت : لا تضيعوا دم الملك ! فقال جذيمة : " دعوا دما ضيعه أهله " . فذهبت مثلا .

فهلك جذيمة ، وخرج قصير من الحي الذين هلكت العصا بين أظهرهم ، حتى قدم على عمرو بن عدي ، وهو بالحيرة ، فوجده قد اختلف هو وعمرو بن عبد الجن فأصلح بينهما ، وأطاع الناس عمرو بن عدي ، وقال له قصير : تهيأ واستعد ولا تطل دم خالك . فقال : " كيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو ؟ " فذهبت مثلا .

وكانت الزباء سألت كهنة عن أمرها وهلاكها ، فقالوا لها : نرى هلاكك بسبب عمرو بن عدي ، ولكن حتفك بيدك ، فحذرت عمرا واتخذت نفقا من مجلسها إلى حصن لها داخل مدينتها ، ثم قالت : إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني ، ودعت رجلا مصورا حاذقا ، فأرسلته إلى عمرو بن عدي متنكرا وقالت له : صوره جالسا وقائما ومتفضلا ومتنكرا ومتسلحا بهيئته ولبسه ولونه ثم أقبل إلي . ففعل المصور ما أوصته الزباء وعاد إليها ، وأرادت أن تعرف عمرو بن عدي فلا تراه على حال إلا عرفته وحذرته .

وقال قصير لعمرو : اجدع أنفي واضرب ظهري ودعني وإياها . فقال عمرو : ما أنا بفاعل . فقال قصير : " خل عني إذا وخلاك ذم " ، فذهبت مثلا . فقال عمرو : فأنت أبصر ، فجدع قصير أنفه ودق بظهره وخرج كأنه هارب ، وأظهر أن عمرا فعل ذلك به ، وسار حتى قدم على الزباء ، فقيل لها : إن قصيرا بالباب ، فأمرت به فأدخل عليها ، فإذا أنفه قد جدع وظهره قد ضرب ، فقالت : " لأمر ما جدع قصير أنفه " ، فذهبت مثلا . قالت : ما الذي أرى بك يا قصير ؟ قال : زعم عمرو أني غدرت خاله وزينت له المسير إليك ومالأتك عليه ; ففعل بي ما ترين فأقبلت إليك ، وعرفت أني لا أكون مع أحد [ ص: 319 ] هو أثقل عليه منك . فأكرمته ، وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والرأي والتجربة والمعرفة بأمور الملك .

فلما عرف أنها قد استرسلت إليه ووثقت به ، قال لها : إن لي بالعراق أموالا كثيرة ، ولي بها طرائف وعطر ، فابعثيني لأحمل مالي وأحمل إليك من طرائفها وصنوف ما يكون بها من التجارات فتصيبين أرباحا وبعض ما لا غناء للملوك عنه . فسرحته ودفعت إليه أموالا وجهزت معه عيرا ، فسار حتى قدم العراق وأتى عمرو بن عدي متخفيا وأخبره الخبر وقال : جهزني بالبز والطرف وغير ذلك ، لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثأرك وتقتل عدوك . فأعطاه حاجته ، فرجع بذلك كله إلى الزباء فعرضه عليها ، فأعجبها وسرها وازدادت به ثقة ، ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهزته به في المرة الأولى . فسار حتى قدم العراق وحمل من عند عمرو حاجته ولم يدع طرفة ولا متاعا قدر عليه ، ثم عاد الثالثة فأخبر عمرا الخبر وقال : اجمع لي ثقات أصحابك وجندك وهيء لهم الغرائر - وهو أول من عملها - واحمل كل رجلين على بعير في غرارتين واجعل معقد رءوسهما من باطنهما . وقال له : إذا دخلت مدينة الزباء أقمتك على باب نفقها ، وخرجت الرجال من الغرائر فصاحوا بأهل المدينة ، فمن قاتلهم قاتلوه ، وإن أقبلت الزباء تريد نفقها قتلتها .

ففعل عمرو ذلك وساروا ، فلما كانوا قريبا من الزباء ، تقدم قصير إليها فبشرها وأعلمها كثرة ما حمل من الثياب والطرائف ، وسألها أن تخرج وتنظر إلى الإبل وما عليها ، وكان قصير يكمن النهار ويسير الليل ، وهو أول من فعل ذلك ، فخرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض ، فقالت : يا قصير

ما للجمال مشيها وئيدا     أجندلا يحملن أم حديدا
أم صرفانا باردا شديدا     أم الرجال جثما قعودا



[ ص: 320 ] ودخلت الإبل المدينة ، فلما توسطتها أنيخت وخرج الرجال من الغرائر ، ودل قصير عمرا على باب النفق وصاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح ، وقام عمرو على باب النفق . وأقبلت الزباء تريد الخروج من النفق ، فلما أبصرت عمرا قائما على باب النفق عرفته بالصورة التي عملها المصور ، فمصت سما كان في خاتمها ، فقالت : " بيدي لا بيد عمرو " ! فذهبت مثلا . وتلقاها عمرو بالسيف فقتلها وأصاب ما أصاب من المدينة ثم عاد إلى العراق . وصار الملك بعد جذيمة لابن أخته عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سعود بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم ، وهو أول من اتخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب ، فلم يزل ملكا حتى مات ، وهو ابن مائة وعشرين سنة ، وقيل : مائة وثماني عشرة سنة ، منها أيام ملوك الطوائف خمس وتسعون سنة ، وأيام أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وعشرة أشهر ، وأيام ابنه سابور بن أردشير ثماني سنين وشهران ، وكان منفردا بملكه يغزو المغازي ، ولا يدين لملوك الطوائف إلى أن ملك أردشير بن بابك أهل فارس . ولم يزل الملك في ولده إلى أن كان آخرهم النعمان بن المنذر ، إلى أيام ملوك كندة ، على ما نذكره إن شاء الله .

وقيل في سبب مسير ولد نصر بن ربيعة إلى العراق غير ما تقدم ، وهو رؤيا رآها ربيعة ، وسيرد ذكرها عند أمر الحبشة ، إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية