الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2983 ] رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه السماوات والأرض قائمة حيال العباد; تحدثهم عن الخالق البارئ المدبر لهذا الملكوت الهائل; الذي لا يدعي أحد أنه يملك خلقه وتدبيره; ولا يملك أحد أن يهرب من الاعتراف لخالقه بالقدرة المطلقة والربوبية الحقة. وما بينهما .. من هواء وسحاب، وضوء ونور، ومخلوقات دقيقة يعرف البشر شيئا منها الحين بعد الحين، ويخفى عليهم منها أكثر مما يكشف لهم!.

                                                                                                                                                                                                                                      والسماوات والأرض وما بينهما من الضخامة والعظمة والدقة والتنوع والجمال والتناسق بحيث لا يملك الإنسان نفسه أمامها - حين يستيقظ قلبه - من التأثر العميق، والروعة البالغة، والتفكر الطويل، وما يمر الإنسان بهذا الخلق العظيم من غير ما تأثر ولا تدبر إلا حين يموت قلبه، فيفقد التأثر والاستجابة لإيقاعات هذا الكون الحافل بالعجائب.

                                                                                                                                                                                                                                      ورب المشارق ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولكل نجم مشرق، ولكل كوكب مشرق، فهي مشارق كثيرة في كل جانب من جوانب السماوات الفسيحة، وللتعبير دلالة أخرى دقيقة في التعبير عن الواقع في هذه الأرض التي نعيش عليها كذلك.فالأرض في دورتها أمام الشمس تتوالى المشارق على بقاعها المختلفة - كما تتوالى المغارب - فكلما جاء قطاع منها أمام الشمس كان هناك مشرق على هذا القطاع، وكان هناك مغرب على القطاع المقابل له في الكرة الأرضية، حتى إذا تحركت الأرض كان هناك مشرق آخر على القطاع التالي ومغرب آخر على القطاع المقابل له وهكذا.وهي حقيقة ما كان يعرفها الناس في زمان نزول القرآن الكريم; ولكن خبرهم بها الله في ذلك الزمان القديم!.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا النظام الدقيق في توالي المشارق على هذه الأرض، وهذا البهاء الرائع الذي يغمر الكون في مطالع المشارق، كلاهما جدير بأن يوقع في القلب البشري من التأثرات الموحية، ما يهتف به إلى تدبر صنعة الصانع المبدع، وإلى الإيمان بوحدانية الخالق المدبر، بما يبدو من آثار الصنعة الموحدة التي لا اختلاف في طابعها الدقيق الجميل.

                                                                                                                                                                                                                                      تلك هي مناسبة ذكر هذه الصفة من صفات الله الواحد في هذا المقام. وسنرى أن ذكر السماء وذكر المشارق له مناسبة أخرى فيما يلي هذه الآيات من السورة، عند الحديث عن الكواكب والشهب والشياطين والرجوم.

                                                                                                                                                                                                                                      إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب، وحفظا من كل شيطان مارد، لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب، دحورا ولهم عذاب واصب، إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب .

                                                                                                                                                                                                                                      بعد ما مس في مطلع السورة شطر الأسطورة الخاص بالملائكة، عاد يمس هنا شطرها الثاني وهو الخاص بالشياطين.وكانوا يزعمون أن بين الله وبين الجنة نسبا، وبعضهم كانوا يعبدون الشياطين على هذا الأساس، وعلى أساس أن الشياطين يعرفون الغيب لاتصالهم بالملإ الأعلى..

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد ذكر السماوات والأرض وما بينهما وذكر المشارق، إما مشارق النجوم والكواكب، وإما المشارق لمتوالية على قطاعات الأرض، وإما هذه وتلك وأنوارها وأضوائها، يجيء ذكر الكواكب:

                                                                                                                                                                                                                                      إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب ..

                                                                                                                                                                                                                                      ونظرة إلى السماء كافية لرؤية هذه الزينة; ولإدراك أن الجمال عنصر مقصود في بناء هذا الكون; وأن [ ص: 2984 ] صنعة الصانع فيه بديعة التكوين جميلة التنسيق; وأن الجمال فيه فطرة عميقة لا عرض سطحي; وأن تصميمه قائم على جمال التكوين كما هو قائم على كمال الوظيفة سواء بسواء، فكل شيء فيه بقدر، وكل شيء فيه يؤدي وظيفته بدقة; وهو في مجموعه جميل.

                                                                                                                                                                                                                                      والسماء وتناثر الكواكب فيها، أجمل مشهد تقع عليه العين، ولا تمل طول النظر إليه، وكل نجمة توصوص بضوئها وكل كوكب يوصوص بنوره وكأنه عين محبة تخالسك النظر; فإذا أنت حدقت فيها أغمضت وتوارت; وإذا أنت التفت عنها أبرقت ولمعت! وتتبع مواقعها وتغير منازلها ليلة بعد ليلة وآنا بعد آن متعة نفسية لا تملها النفس أبدا!.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم تقرر الآية التالية أن لهذه الكواكب وظيفة أخرى، وأن منها شهبا ترجم بها الشياطين كي لا تدنو من الملإ الأعلى:

                                                                                                                                                                                                                                      وحفظا من كل شيطان مارد. لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب. إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ..

                                                                                                                                                                                                                                      فمن الكواكب رجوم تحفظ السماء من كل شيطان عات متمرد وتذوده عن الاستماع إلى ما يدور في الملإ الأعلى; فإذا حاول التسمع تلقفته الرجوم من كل جانب، فتدحره دحرا، وله في الآخرة عذاب موصول لا ينقطع، ولقد يخطف الشيطان المارد خطفة سريعة مما يدور في الملإ الأعلى، فيتبعه شهاب يلاحقه في هبوطه فيصيبه ويحرقه حرقا.

                                                                                                                                                                                                                                      ونحن لا نعرف كيف يتسمع الشيطان المارد; ولا كيف يخطف الخطفة; ولا كيف يرجم بالشهاب الثاقب، لأن هذه كلها غيبيات تعجز طبيعتنا البشرية عن تصور كيفياتها ومجالنا فيها هو تصديق ما جاء من عند الله فيها.وهل نعلم عن شيء في هذا الكون إلا القشور؟!

                                                                                                                                                                                                                                      والمهم أن هذه الشياطين التي تمنع من لوصول إلى الملإ الأعلى، ومن التسمع لما يدور فيه هي التي يدعي المدعون أن بينها وبين الله نسبا، ولو كان شيء من هذا صحيحا لتغير وجه المعاملة، ولما كان مصير الأنسباء والأصهار - بزعمهم - هو المطاردة والرجم والحرق أبدا!.

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد ذكر الملائكة، وذكر السماوات والأرض وما بينهما، وذكر الكواكب التي تزين السماء الدنيا، وذكر الشياطين المردة والقذائف التي تلاحقها؛ يكلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يسألهم أهم أشد خلقا أم هذه الخلائق؟ وإذا كانت هذه الخلائق أشد وأقوى ففيم يدهشون لقضية البعث ويسخرون منها، ويستبعدون وقوعها، وهي لا تقاس إلى خلق تلك الخلائق الكبرى:

                                                                                                                                                                                                                                      فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا؟ إنا خلقناهم من طين لازب. بل عجبت ويسخرون. وإذا ذكروا لا يذكرون. وإذا رأوا آية يستسخرون: وقالوا: إن هذا إلا سحر مبين. أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون؟ أوآباؤنا الأولون؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      فاستفتهم واسألهم إذا كانت الملائكة والسماوات والأرض وما بينهما والشياطين والكواكب والشهب كلها من خلق الله.فهل خلقهم هم أشد وأصعب من خلق هذه الأكوان والخلائق؟

                                                                                                                                                                                                                                      ولا ينتظر منهم جوابا، فالأمر ظاهر; إنما هو سؤال الاستنكار والتعجيب من حالهم العجيب، وغفلتهم عما حولهم، والسخرية من تقديرهم للأمور.ومن ثم يعرض عليهم مادة خلقهم الأولى، وهي طين رخو لزج [ ص: 2985 ] من بعض هذه الأرض، التي هي إحدى تلك الخلائق:

                                                                                                                                                                                                                                      إنا خلقناهم من طين لازب ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهم قطعا ليسوا أشد خلقا من تلك الخلائق! وموقفهم إذن عجيب، وهم يسخرون من آيات الله، ومن وعده لهم بالبعث والحياة، وسخريتهم هذه تثير العجب في نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم في موقفهم سادرون:

                                                                                                                                                                                                                                      بل عجبت ويسخرون. وإذا ذكروا لا يذكرون. وإذا رأوا آية يستسخرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وحق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعجب من أمرهم، فإن المؤمن الذي يرى الله في قلبه كما يراه محمد - صلى الله عليه وسلم - ويرى آيات الله واضحة هذا الوضوح، كثيرة هذه الكثرة، يعجب - لا شك - ويدهش كيف يمكن أن تعمى عنها القلوب؟ وكيف يمكن أن تقف منها هذا الموقف العجيب!.

                                                                                                                                                                                                                                      وبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجب منهم هذا العجب، إذا هم يسخرون من القضية الواضحة التي يعرضها عليهم، سواء في وحدانية الله، أو في شأن البعث والنشور، وإذا هم مطموسون لا تتفتح قلوبهم للتذكير وإذا هم يتلقون آيات الله بالسخرية الشديدة، والتعجيب ممن يريهم إياها، واستدعاء أسباب السخرية وطلبها طلبا كما يوحي لفظ يستسخرون !

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك وصفهم القرآن بأنه سحر، وعجبهم مما يعدهم به من البعث:

                                                                                                                                                                                                                                      وقالوا: إن هذا إلا سحر مبين. أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون؟ أوآباؤنا الأولون؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد غفلوا عن آثار قدرة الله فيما حولهم، وفي ذات أنفسهم، غفلوا عن آثار هذه القدرة في خلق السماوات والأرض وما بينهما; وفي خلق الكواكب والشهب; وفي خلق الملائكة والشياطين; وفي خلقهم هم أنفسهم من طين لازب، غفلوا عن آثار القدرة في هذا كله ووقفوا يستبعدون على هذه القدرة أن تعيدهم إذا ماتوا وصاروا ترابا وعظاما، هم وآباءهم الأولين! وما في هذا البعث والإعادة من غريب على تلك القدرة ولا بعيد; لمن يتأمل هذا الواقع ويتدبره أقل تدبر; في ضوء هذه المشاهدات التي تحيط بهم في الآفاق وفي أنفسهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ كانوا لا يتدبرون هذه المشاهدات في هوادة ويسر، وفي طمأنينة وهدوء، فهو يوقظهم إذن بشدة وعنف، على مشهدهم في الآخرة مبعوثين، ويصور لهم ذلك المشهد وهم فيه يضطربون:

                                                                                                                                                                                                                                      قل: نعم وأنتم داخرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      نعم ستبعثون أنتم وآباؤكم الأولون، ستبعثون وأنتم داخرون، ذلولون، مستسلمون، غير مستعصين ولا متأبين، نعم، ثم يدخل في استعراض ذلك كيف يكون، وإذا هم أمام مشهد من المشاهد المطولة المتعددة الجوانب، المتنوعة الأساليب، المزدحمة بالمناظر الحية والحركات المتتابعة، يلتقي فيها الوصف بالحوار، فتسير على نسق الحكاية فترة، ثم تنتقل إلى نسق الحوار أخرى، ويتخلل عرض الأحداث والحركات تعليقات وتعقيبات عليها، وبذلك يستكمل المشهد كل سمات الحياة:

                                                                                                                                                                                                                                      فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2986 ] هكذا في ومضة خاطفة بمقدار ما تنبعث صيحة واحدة، تسمى "زجرة" للدلالة على لون من الشدة فيها، والعنف في توجيهها، والاستعلاء في مصدرها. فإذا هم ينظرون .فجأة وبلا تمهيد أو تحضير، وإذا هم يصيحون مبهوتين:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية