الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

حركات العباد بقلوبهم وأبدانهم لا بد لها من غاية هي المقصود ، ولا بد لها من وسيلة إلى ذلك المقصود . فالمقصود هو الله ، والوسيلة رسول الله ، فجماع الأمر في شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا عبده ورسوله .

أما الأول فقال الله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات :56] ، فلا معبود إلا هو ، لا إله إلا هو ، والمعبود الإله هو الذي يقصد لنفسه ، فتبتغي إليه الوسيلة ؛ أو تقصده لنفسك ، فترجوه وتخافه ، كما قال تعالى : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا [الإسراء :57] . فالرجاء لجلب المنفعة ودفع المضرة رزقا ونصرا ، والخوف من حصول المضرة وزوال المنفعة . وهذا لا بد للبشر منه ، وإذا عبدته لنفسه وأحببت ذاته فتلك منفعة تصل إليك ، وأنت ترجوه أن يعطيكها وتخاف أن يسلبكها ، وذلك مجتمع في قوله : إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة :5] .

وقد ذكرت في غير هذا الموضع أن العبادة متضمنة للخوف ، وأن الاستعانة متضمنة للرجاء . وهذا صحيح باعتبار ، وأما باعتبار [آخر] فالعبادة هي ابتغاء الوسيلة إليه والتقرب إليه ، وأما الاستعانة ففيها رجاء [ ص: 28 ] رحمته وخوف عذابه ، لأن الراجي يأمل إعانة الله له على نيل مطلوبه ودفع مرهوبه . والخوف متضمن للرجاء ، لأن الخائف إن لم يرج السلامة لم يكن خائفا ، بل آيسا قانطا ، وكذلك الراجي إن لم يخف الفوت لم يكن راجيا بل آمنا . ولهذا قال : ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون [الحجر :56] ، وقال : إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون [يوسف :87] ، وقال : فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [الأعراف :99] .

فثبت أن كل خوف فإنه مستلزم للرجاء ، وكل رجاء فإنه مستلزم للخوف ، لكن قد يغلب أحدهما ، والكمال هو الاعتدال . قال أحمد بن حنبل : ينبغي أن يكون خوف العبد ورجاؤه سواء ، فإذا زاد أحدهما على صاحبه هلك . لكن الرجاء يتعلق بالحبيب المطلوب ، والخوف يتعلق بالمكروه ، بمنزلة الأمر والنهي ، وإن كان كل منهما مستلزما للآخر ، إذ الأمر بالشيء نهي عن ضده ، والنهي عن الشيء أمر بما لا بد لخلقه من أضداده . فكل راج أو خائف يجب أن يكون مستعينا .

وهذه العبادات القلبية هي مما يجب فيها الإخلاص لله ، فلا يجوز أن يفعل لا للملائكة ولا للبشر ، لا للنبيين ولا للصالحين ، خلاف ما عليه المشركون ومن ضاهاهم من النصارى ، وما عليه هذه الأمة من الرافضة وبعض المتصوفة والمتفقرة والمتفقهة ، والله أعلم . [ ص: 29 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية