وأما الدليل على جواز ذلك : فالسنة والإجماع والقياس .
أما السنة فما تقدم من معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم -
لأهل خيبر على أن
[ ص: 252 ] يعتملوها من أموالهم ، ولم يدفع إليهم بذرا ، وكما عامل
المهاجرون والأنصار على أن البذر من عندهم ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=15703حرب الكرماني : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17032محمد بن نصر ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15712حسان بن إبراهيم عن
nindex.php?page=showalam&ids=15744حماد بن سلمة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17314يحيى بن سعيد عن
إسماعيل بن أبي حكيم : " أن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب أجلى
أهل نجران وأهل فدك وأهل خيبر ، واستعمل
nindex.php?page=showalam&ids=120يعلى [ بن منية ] فأعطى العنب والنخل على أن
لعمر الثلثين ولهم الثلث ، وأعطى البياض - يعني بياض الأرض - على : إن كان البذر والبقر والحديد من عند
عمر ،
فلعمر الثلثان ولهم الثلث ، وإن كان منهم
فلعمر الشطر ، ولهم الشطر " فهذا
عمر - رضي الله عنه -
nindex.php?page=showalam&ids=120ويعلى [ بن منية ] عامله صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عمل في خلافته بتجويز كلا الأمرين : أن يكون البذر من رب الأرض ، وأن يكون من العامل ، وقال
حرب : حدثنا
أبو معن ، حدثنا
مؤمل ، حدثنا
سفيان ، عن
الحارث بن حصيرة الأزدي عن
صخر بن الوليد عن
عمرو بن صليع بن محارب قال : " جاء رجل إلى
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب فقال : إن فلانا أخذ أرضا فعمل فيها وفعل ، فدعاه علي فقال : ما هذه الأرض التي أخذت ؟ فقال :
nindex.php?page=treesubj&link=6208أرض أخذتها أكري أنهارها وأعمرها وأزرعها ، فما أخرج الله من شيء فلي النصف وله النصف ، فقال : لا بأس بهذا " فظاهره : أن البذر من عنده ، ولم ينهه
علي عن ذلك ، ويكفي إطلاق سؤاله ، وإطلاق علي الجواب .
وأما القياس : فقد قدمنا أن هذه المعاملة نوع من الشركة ،
[ ص: 253 ] ليست من الإجارة الخاصة . وإن جعلت إجارة فهي من الإجارة العامة التي تدخل فيها الجعالة والسبق والرمي . وعلى التقديرين : فيجوز أن يكون البذر منهما ، وذلك أن البذر في المزارعة ليس من الأصول التي ترجع إلى ربها ، كالثمن في المضاربة ، بل البذر يتلف كما تتلف المنافع ، وإنما ترجع الأرض أو بدن البقرة والعامل . فلو كان البذر مثل رأس المال ، لكان الواجب أن يرجع مثله إلى مخرجه ، ثم يقتسمان الفضل ، وليس الأمر كذلك ، بل يشتركان في جميع الزرع ، فظهر أن الأصول فيها من أحد الجانبين هي الأرض بمائها وهوائها ، وبدن العامل والبقر [ وأكثر الحرث والبذر ] يذهب كما تذهب المنافع ، وكما تذهب أجزاء من الماء والهواء والتراب ، فيستحيل زرعا ، والله سبحانه يخلق الزرع من نفس الحب والتراب والماء والهواء كما يخلق الحيوان من ماء الأبوين ، بل ما يستحيل في الزرع من أجزاء الأرض أكثر مما يستحيل من الحب ، والحب يستحيل فلا يبقى ، بل يفلقه الله ويحيله كما يحيل أجزاء الماء والهواء ، وكما يحيل المني وسائر مخلوقاته من الحيوان ، والمعدن والنبات ، [ ولما ] وقع ما وقع من رأي كثير من الفقهاء ، اعتقدوا أن الحب والنوى في الزرع والشجر : هو الأصل ، والباقي تبع ، حتى قضوا في مواضع بأن يكون الزرع والشجر لرب النوى والحب مع قلة قيمته ، ولرب الأرض أجرة أرضه .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قضى بضد هذا ، حيث قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004068من زرع في أرض [ ص: 254 ] قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته " ، فأخذ
أحمد وغيره من فقهاء الحديث بهذا الحديث . وبعض من أخذ به يرى أنه خلاف القياس ، وأنه من صور الاستحسان ، وهذا لما انعقد في نفسه من القياس المتقدم ، وهو أن الزرع تبع للبذر ، والشجر تبع للنوى ، وما جاءت به السنة هو القياس الصحيح الذي تدل عليه الفطرة ، فإن إلقاء الحب في الأرض بمنزلة إلقاء المني في الرحم سواء ، [ ولهذا سمى الله تعالى النساء حرثا في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=223نساؤكم حرث لكم ) كما سمى الأرض المزروعة حرثا ، والمغلب في ملك الحيوان إنما هو جانب الأم ] ولهذا تبع الولد الآدمي أمه في الحرية والرق دون أبيه ، ويكون الجنين البهيم لمالك الأم ، دون مالك الفحل الذي نما عن عسبه . وذلك لأن الأجزاء التي استمدها من الأم أضعاف الأجزاء التي استمدها من الأب ، وإنما للأب حق الابتداء فقط ، ولا ريب أنه مخلوق منهما جميعا ، وكذلك الحب والنوى ، فإن الأجزاء التي خلق منها الشجر والزرع أكثرها من التراب والماء والهواء . وقد يؤثر ذلك في الأرض [ فتضعف ] بالزرع فيها ، لكن لما كانت هذه الأجزاء تستخلف دائما ، فإن الله سبحانه لا يزال يمد الأرض بالماء والهواء وبالتراب ، إما مستحيلا من غيره ، وإما بالموجود ، ولا يؤثر في الأرض نقص الأجزاء الترابية شيئا ، إما للخلف بالاستحالة ، وإما للكثرة ، ولهذا صار يظهر أن أجزاء الأرض في معنى المنافع ، بخلاف الحب والنوى الملقى فيها ، فإنه عين ذاهبة غير مستخلفة ولا يعوض
[ ص: 255 ] عنها . لكن هذا القدر لا يوجب أن يكون البذر هو الأصل فقط ، فإن العامل هو وبقره لا بد له مدة العمل من قوت وعلف يذهب أيضا ، ورب الأرض لا يحتاج إلى مثل ذلك . ولذلك اتفقوا على أن البذر لا يرجع إلى ربه كما يرجع في القراض ، ولو جرى عندهم مجرى الأصول لرجع .
فقد تبين أن هذه المعاملة اشتملت على ثلاثة أشياء: أصول باقية : وهي الأرض ، وبدن العامل والبقر ، والحديد ، ومنافع فانية ، وأجزاء فانية أيضا ، وهي البذر وبعض أجزاء الأرض وبعض أجزاء العامل وبقره ، فهذه الأجزاء الفانية كالمنافع الفانية سواء ، فتكون الخيرة إليهما فيمن يبذل هذه الأجزاء ، ويشتركان على أي وجه شاءا ما لم يفض إلى بعض ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنواع الغرر أو الربا وأكل المال بالباطل ، ولذا جوز
أحمد سائر أنواع المشاركات التي تشبه المساقاة والمزارعة ، مثل أن يدفع دابته أو سفينته أو غيرهما إلى من يعمل عليها والأجرة بينهما .
وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ : فَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ .
أَمَّا السُّنَّةُ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لِأَهْلِ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ
[ ص: 252 ] يَعْتَمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَلَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِمْ بَذْرًا ، وَكَمَا عَامَلَ
الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ عِنْدِهِمْ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15703حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ : حَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=17032مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ ، حَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=15712حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=15744حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=17314يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ
إسماعيل بن أبي حكيم : " أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَجْلَى
أَهْلَ نَجْرَانَ وَأَهْلَ فَدَكَ وَأَهْلَ خَيْبَرَ ، وَاسْتَعْمَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=120يَعْلَى [ بْنَ مُنْيَةَ ] فَأَعْطَى الْعِنَبَ وَالنَّخْلَ عَلَى أَنَّ
لعمر الثُّلُثَيْنِ وَلَهُمُ الثُّلُثُ ، وَأَعْطَى الْبَيَاضَ - يَعْنِي بَيَاضَ الْأَرْضِ - عَلَى : إِنْ كَانَ الْبَذْرُ وَالْبَقَرُ وَالْحَدِيدُ مِنْ عِنْدِ
عمر ،
فلعمر الثُّلُثَانِ وَلَهُمُ الثُّلُثُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ
فلعمر الشَّطْرُ ، وَلَهُمُ الشَّطْرُ " فَهَذَا
عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
nindex.php?page=showalam&ids=120وَيَعْلَى [ بْنُ مُنْيَةَ ] عَامِلُهُ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَمِلَ فِي خِلَافَتِهِ بِتَجْوِيزٍ كِلَا الْأَمْرَيْنِ : أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ ، وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَامِلِ ، وَقَالَ
حرب : حَدَّثَنَا
أبو معن ، حَدَّثَنَا
مؤمل ، حَدَّثَنَا
سفيان ، عَنِ
الحارث بن حصيرة الأزدي عَنْ
صخر بن الوليد عَنْ
عمرو بن صليع بن محارب قَالَ : " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ : إِنَّ فُلَانًا أَخَذَ أَرْضًا فَعَمِلَ فِيهَا وَفَعَلَ ، فَدَعَاهُ عَلِيٌّ فَقَالَ : مَا هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي أَخَذْتَ ؟ فَقَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=6208أَرْضٌ أَخَذْتُهَا أُكْرِي أَنْهَارَهَا وَأُعَمِّرُهَا وَأَزْرَعُهَا ، فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ فَلِيَ النِّصْفُ وَلَهُ النِّصْفُ ، فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهَذَا " فَظَاهِرُهُ : أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ عِنْدِهِ ، وَلَمْ يَنْهَهُ
علي عَنْ ذَلِكَ ، وَيَكْفِي إِطْلَاقُ سُؤَالِهِ ، وَإِطْلَاقُ عَلِيٍّ الْجَوَابَ .
وَأَمَّا الْقِيَاسُ : فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ نَوْعٌ مِنَ الشَّرِكَةِ ،
[ ص: 253 ] لَيْسَتْ مِنَ الْإِجَارَةِ الْخَاصَّةِ . وَإِنْ جُعِلَتْ إِجَارَةً فَهِيَ مِنَ الْإِجَارَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَدْخُلُ فِيهَا الْجَعَالَةُ وَالسَّبْقُ وَالرَّمْيُ . وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ : فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْهُمَا ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَذْرَ فِي الْمُزَارَعَةِ لَيْسَ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى رَبِّهَا ، كَالثَّمَنِ فِي الْمُضَارَبَةِ ، بَلِ الْبَذْرُ يَتْلَفُ كَمَا تَتْلَفُ الْمَنَافِعُ ، وَإِنَّمَا تَرْجِعُ الْأَرْضُ أَوْ بَدَنُ الْبَقَرَةِ وَالْعَامِلِ . فَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِثْلَ رَأْسِ الْمَالِ ، لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَرْجِعَ مِثْلُهُ إِلَى مُخْرِجِهِ ، ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الْفَضْلَ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، بَلْ يَشْتَرِكَانِ فِي جَمِيعِ الزَّرْعِ ، فَظَهَرَ أَنَّ الْأُصُولَ فِيهَا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ هِيَ الْأَرْضُ بِمَائِهَا وَهَوَائِهَا ، وَبَدَنُ الْعَامِلِ وَالْبَقَرِ [ وَأَكْثَرُ الْحَرْثِ وَالْبَذْرِ ] يَذْهَبُ كَمَا تَذْهَبُ الْمَنَافِعُ ، وَكَمَا تَذْهَبُ أَجْزَاءٌ مِنَ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ ، فَيَسْتَحِيلُ زَرْعًا ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ الزَّرْعَ مِنْ نَفْسِ الْحَبِّ وَالتُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ كَمَا يَخْلُقُ الْحَيَوَانَ مِنْ مَاءِ الْأَبَوَيْنِ ، بَلْ مَا يَسْتَحِيلُ فِي الزَّرْعِ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ مِنَ الْحَبِّ ، وَالْحَبُّ يَسْتَحِيلُ فَلَا يَبْقَى ، بَلْ يَفْلِقُهُ اللَّهُ وَيُحِيلُهُ كَمَا يُحِيلُ أَجْزَاءَ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ ، وَكَمَا يُحِيلُ الْمَنِيَّ وَسَائِرَ مَخْلُوقَاتِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ ، وَالْمَعْدِنِ وَالنَّبَاتِ ، [ وَلَمَّا ] وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ رَأْيِ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ ، اعْتَقَدُوا أَنَّ الْحَبَّ وَالنَّوَى فِي الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ : هُوَ الْأَصْلُ ، وَالْبَاقِي تَبَعٌ ، حَتَّى قَضَوْا فِي مَوَاضِعَ بِأَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ وَالشَّجَرُ لِرَبِّ النَّوَى وَالْحَبِّ مَعَ قِلَّةِ قِيمَتِهِ ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أُجْرَةُ أَرْضِهِ .
وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا قَضَى بِضِدِّ هَذَا ، حَيْثُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004068مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ [ ص: 254 ] قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ " ، فَأَخَذَ
أحمد وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَبَعْضُ مَنْ أَخَذَ بِهِ يَرَى أَنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ ، وَأَنَّهُ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِحْسَانِ ، وَهَذَا لِمَا انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْقِيَاسِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ تَبَعٌ لِلْبَذْرِ ، وَالشَّجَرَ تَبَعٌ لِلنَّوَى ، وَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ ، فَإِنَّ إِلْقَاءَ الْحَبِّ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ إِلْقَاءِ الْمَنِيِّ فِي الرَّحِمِ سَوَاءٌ ، [ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى النِّسَاءَ حَرْثًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=223نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ) كَمَا سَمَّى الْأَرْضَ الْمَزْرُوعَةَ حَرْثًا ، وَالْمُغَلَّبُ فِي مِلْكِ الْحَيَوَانِ إِنَّمَا هُوَ جَانِبُ الْأُمِّ ] وَلِهَذَا تَبِعَ الْوَلَدُ الْآدَمِيُّ أُمَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ دُونَ أَبِيهِ ، وَيَكُونُ الْجَنِينُ الْبَهِيمُ لِمَالِكِ الْأُمِّ ، دُونَ مَالِكِ الْفَحْلِ الَّذِي نَمَا عَنْ عَسْبِهِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي اسْتَمَدَّهَا مِنَ الْأُمِّ أَضْعَافُ الْأَجْزَاءِ الَّتِي اسْتَمَدَّهَا مِنَ الْأَبِ ، وَإِنَّمَا لِلْأَبِ حَقُّ الِابْتِدَاءِ فَقَطْ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا ، وَكَذَلِكَ الْحَبُّ وَالنَّوَى ، فَإِنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا الشَّجَرُ وَالزَّرْعُ أَكْثَرُهَا مِنَ التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ . وَقَدْ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ [ فَتَضْعُفُ ] بِالزَّرْعِ فِيهَا ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَجْزَاءُ تُسْتَخْلَفُ دَائِمًا ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَزَالُ يَمُدُّ الْأَرْضَ بِالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَبِالتُّرَابِ ، إِمَّا مُسْتَحِيلًا مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِمَّا بِالْمَوْجُودِ ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ نَقْصُ الْأَجْزَاءِ التُّرَابِيَّةِ شَيْئًا ، إِمَّا لِلْخَلَفِ بِالِاسْتِحَالَةِ ، وَإِمَّا لِلْكَثْرَةِ ، وَلِهَذَا صَارَ يَظْهَرُ أَنَّ أَجْزَاءَ الْأَرْضِ فِي مَعْنَى الْمَنَافِعِ ، بِخِلَافِ الْحَبِّ وَالنَّوَى الْمُلْقَى فِيهَا ، فَإِنَّهُ عَيْنٌ ذَاهِبَةٌ غَيْرُ مُسْتَخْلَفَةٍ وَلَا يُعَوَّضُ
[ ص: 255 ] عَنْهَا . لَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ هُوَ الْأَصْلَ فَقَطْ ، فَإِنَّ الْعَامِلَ هُوَ وَبَقَرَهُ لَا بُدَّ لَهُ مُدَّةَ الْعَمَلِ مِنْ قُوتٍ وَعَلَفٍ يَذْهَبُ أَيْضًا ، وَرَبُّ الْأَرْضِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ . وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ لَا يَرْجِعُ إِلَى رَبِّهِ كَمَا يَرْجِعُ فِي الْقِرَاضِ ، وَلَوْ جَرَى عِنْدَهُمْ مَجْرَى الْأُصُولِ لَرَجَعَ .
فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أُصُولٍ بَاقِيَةٍ : وَهِيَ الْأَرْضُ ، وَبَدَنِ الْعَامِلِ وَالْبَقَرِ ، وَالْحَدِيدِ ، وَمَنَافِعَ فَانِيَةٍ ، وَأَجْزَاءٍ فَانِيَةٍ أَيْضًا ، وَهِيَ الْبَذْرُ وَبَعْضُ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَبَعْضُ أَجْزَاءِ الْعَامِلِ وَبَقَرِهِ ، فَهَذِهِ الْأَجْزَاءُ الْفَانِيَةُ كَالْمَنَافِعِ الْفَانِيَةِ سَوَاءٌ ، فَتَكُونُ الْخِيرَةُ إِلَيْهِمَا فِيمَنْ يَبْذُلُ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ ، وَيَشْتَرِكَانِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَا مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى بَعْضِ مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ أَوِ الرِّبَا وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ، وَلِذَا جَوَّزَ
أحمد سَائِرَ أَنْوَاعِ الْمُشَارَكَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ ، مِثْلَ أَنْ يَدْفَعَ دَابَّتَهُ أَوْ سَفِينَتَهُ أَوْ غَيْرَهُمَا إِلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا وَالْأُجْرَةُ بَيْنَهُمَا .