الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 401 ] الفصل الثالث : حرمته ، وتوقيره - صلى الله عليه وسلم -

          واعلم أن حرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته ، وتوقيره ، وتعظيمه لازم كما كان حال حياته ، وذلك عند ذكره - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر حديثه ، وسنته ، وسماع اسمه ، وسيرته ، ومعاملة آله ، وعترته ، وتعظيم أهل بيته ، وصحابته .

          وقال أبو إبراهيم التجيبي : واجب على كل مؤمن متى ذكره ، أو ذكر عنده أن يخضع ، ويخشع ، ويتوقر ، ويسكن من حركته ، ويأخذ في هيبته ، وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه ، ويتأدب بما أدبنا الله به .

          قال القاضي أبو الفضل : وهذه كانت سيرة سلفنا الصالح ، وأئمتنا الماضين - رضي الله عنهم - .

          [ حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الأشعري ، وأبو القاسم أحمد بن بقي الحاكم ، وغير واحد ، فيما أجازونيه ، قالوا : أنبأنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهاث ، قال : حدثنا أبو الحسن علي بن فهر ، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرج ، حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب ، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدثنا ابن حميد ] ، قال : ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له مالك : يا أمير المؤمنين ، لا ترفع صوتك في هذا المسجد ، فإن الله - تعالى - أدب قوما فقال : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي [ الحجرات : 2 ] الآية .

          ومدح قوما فقال : إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله [ الحجرات : 3 ] الآية .

          وذم قوما فقال : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون [ الحجرات : 4 ] الآية . وإن حرمته ميتا كحرمته حيا .

          فاستكان لها أبو جعفر ، وقال : يا أبا عبد الله ، أستقبل القبلة ، وأدعو أم أستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : ولم تصرف وجهك عنه ، وهو وسيلتك ، ووسيلة أبيك آدم - عليه السلام - إلى الله - تعالى - يوم القيامة ؟ بل استقبله ، واستشفع به ، فيشفعه الله ، قال الله - تعالى - : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم [ النساء : 64 ] الآية .

          [ ص: 402 ] وقال مالك ، وقد سئل عن أيوب السختياني : ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه :

          وقال : وحج حجتين ، فكنت أرمقه ، ولا أسمع منه غير أنه كان إذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى حتى أرحمه .

          فلما رأيت منه ما رأيت ، وإجلاله للنبي - صلى الله عليه وسلم - كتبت عنه .

          وقال مصعب بن عبد الله : كان مالك إذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - يتغير لونه ، وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه ، فقيل له يوما في ذلك ، فقال : لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون ، ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر ، وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبدا إلا يبكي حتى نرحمه .

          ولقد كنت أرى جعفر بن محمد الصادق ، وكان كثير الدعابة ، والتبسم ، فإذا ذكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم - اصفر . وما رأيته يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا على طهارة .

          وقد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال : إما مصليا ، وإما صامتا ، وإما يقرأ القرآن ، ولا يتكلم فيما لا يعنيه ، وكان من العلماء ، والعباد الذين يخشون الله عز وجل .

          ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم ، وقد جف لسانه في فمه هيبة منه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

          ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع .

          ولقد رأيت الزهري ، وكان من أهنإ الناس ، وأقربهم ، فإذا ذكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم - فكأنه ما عرفك ، ولا عرفته .

          ولقد كنت آتي صفوان بن سليم ، وكان من المتعبدين المجتهدين ، فإذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى ، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ، ويتركوه .

          [ ص: 403 ] وروي عن قتادة أنه كان إذا سمع الحديث أخذه العويل ، والزويل .

          ولما كثر على مالك الناس قيل له : لو جعلت مستمليا يسمعهم ؟ فقال : قال الله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي [ الحجرات : 2 ] ، وحرمته حيا ، وميتا سواء .

          وكان ابن سيرين ربما يضحك ، فإذا ذكر عنده حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - خشع .

          وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالسكوت ، وقال : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي [ الحجرات : 2 ] ، ويتأول أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب له عند سماع قوله .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية