الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين

                                                                                                                                                                                                إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك، وقدم سؤال النسوة; ليظهر براءة ساحته عما [ ص: 294 ] قرف به وسجن فيه، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده، ويجعلوه سلما إلى حط منزلته لديه، ولئلا يقولوا ما خلد في السجن سبع سنين إلا لأمر عظيم، وجرم كبير حق به أن يسجن ويعذب ويستكف شره، وفيه دليل على أن الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها، قال عليه السلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم"، ومنه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمارين به في معتكفه وعنده بعض نسائه: "هي فلانة" اتقاء للتهمة، وعن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره -والله يغفر له- حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني، ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال: ارجع إلى ربك، ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث، لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر، إن كان لحليما ذا أناة"، وإنما قال: سل الملك عن حال النسوة، [ ص: 295 ] ولم يقل: سله أن يفتش عن شأنهن، لأن السؤال مما يهيج الإنسان ويحركه للبحث عما سئل عنه، فأراد أن يورد عليه السؤال ليجد في التفتيش عن حقيقة القصة وفص الحديث; حتى يتبين له براءته بيانا مكشوفا يتميز فيه الحق من الباطل، وقرئ: "النسوة" بضم النون، ومن كرمه وحسن أدبه: أنه لم يذكر سيدته مع ما صنعت به، وتسببت فيه من السجن والعذاب، واقتصر على ذكر المقطعات أيديهن، إن ربي : إن الله تعالى، بكيدهن عليم : أراد أنه كيد عظيم، لا يعلمه إلا الله، لبعد غوره، أو استشهد بعلم الله على أنهن كدنه، وأنه بريء مما قرف به، أو أراد الوعيد لهن، أي: هو عليم بكيدهن فمجازيهن عليه، ما خطبكن : ما شأنكن، إذ راودتن يوسف : هل وجدتن منه ميلا إليكن، قلن حاش لله : تعجبا من عفته، وذهابه بنفسه عن شيء من الريبة ومن نزاهته عنها، قالت امرأت العزيز الآن حصحص : أي: ثبت واستقر، وقرئ: "حصحص" على البناء للمفعول، وهو من حصحص البعير: إذا ألقى ثفناته للإناخة، قال [من الطويل]:


                                                                                                                                                                                                فحصحص في صم الصفا ثفناته ... وناء بسلمى نوءة ثم صمما



                                                                                                                                                                                                ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة والنزاهة واعترافهن على أنفسهن بأنه لم يتعلق [ ص: 296 ] بشيء مما قرفته به، لأنهن خصومه، وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق وهو على الباطل، لم يبق لأحد مقال; وقالت المجبرة والحشوية: نحن قد بقي لنا مقال، ولا بد لنا من أن ندق في فروة من ثبتت نزاهته.

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية