الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الثاني والعشرون والمائتان بين قاعدة الإقرار الذي يقبل الرجوع عنه وبين قاعدة الإقرار الذي لا يقبل الرجوع عنه ) :

الأصل في الإقرار اللزوم من البر والفاجر لأنه على خلاف الطبع كما تقدم فضابط ما لا يجوز الرجوع عنه من الإقرار هو الرجوع الذي ليس له فيه عذر عادي ، وضابط ما يجوز الرجوع عنه أن يكون له في الرجوع عنه عذر عادي ، وفي الفرق مسائل

( المسألة الأولى ) إذا أقر الوارث للورثة أن ما تركه أبوه ميراث بينهم على ما عهد في الشريعة ، وما تحمل عليه الديانة ثم جاء شهود أخبروه أن أباه أشهدهم أنه تصدق عليه في صغره بهذه الدار ، وحازها له أو أقر أنه ملكها عليه بوجه شرعي فإنه إذا رجع عن إقراره بأن التركة مورثة إلا هذه الدار المشهود بها له دون الورثة ، واعتذر بإخبار البينة له ، وأنه لم يكن عالما بذلك بل أقر بناء على العادة ، ومقتضى ظاهر الشريعة فإنه يسمع دعواه وعذره ، ويقيم بينته ، ولا يكون إقراره السابق مكذبا للبينة ، وقادحا فيها لأن هذا عذر عادي تسمع مثله .

( المسألة الثانية ) في الجواهر إذا قال له علي مائة درهم إن حلف أو حتى يحلف أو مع يمينه فحلف المقر له فنكل المقر ، وقال ما ظننت أنه يحلف لا يلزمه شيء لأن العادة جرت بأن هذا الاشتراط يقضي عدم اعتقاد لزوم ما أقر به .

وقال ابن عبد الحكم إن قال له علي مائة إن حلف أو ادعاها أو مهما حلف بالعتق أو إن استحل ذلك أو إن كان يعلم أنها له أو إن أعارني داره فأعاره أو إن شهد عليها فلان فشهد عليه بها لا يلزمه في هذا كله شيء لأن العادة جرت على أن هذا ليس بإقرار فإن قال إن حكم بها على فلان فحكم بها عليه لزمته لأن الحكم سبب فيلزمه عند سببها ، والأول كله شروط لا أسباب بل استبعادات محضة مخلة بالإقرار .

( المسألة الثالثة ) إذا أقر فقال له عندي مائة من ثمن خمر أو ميتة ، لم يلزمه شيء لأن [ ص: 39 ] الكلام بآخره ، والقاعدة أن كل كلام لا يستقل بنفسه إذا اتصل بكلام مستقل بنفسه صيره غير مستقل بنفسه وقوله من ثمن خمر لا يستقل بنفسه فيصير الأول المستقل غير مستقل ، وكذلك الصفة ، والاستثناء والغاية والشروط ونحوها

[ ص: 41 - 48 ]

التالي السابق


[ ص: 41 - 48 ] حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الثاني والعشرون والمائتان بين قاعدة الإقرار الذي يقبل الرجوع عنه وبين قاعدة الإقرار الذي لا يقبل الرجوع عنه ) وهو أنه وإن كان الأصل في الإقرار اللزوم من البر والفاجر لأنه على خلاف الطبع كما تقدم ، ولذا قال ابن عرفة : الإقرار خبر يوجب حكم صدقه على قائله فقط بلفظه أو لفظ نائبه لكنه من حيث إنه قد يكون للمقر في الرجوع عنه عذر عادي ، وقد لا يكون له ذلك انقسم قسمين :

( الأول ) ما لا يجوز الرجوع عنه ، وضابطه ما ليس للمقر في رجوعه عنه عذر عادي ، وهذا هو الغالب إلا أن في نفوذه تفصيلا أشار له ابن عاصم بقوله :

ومالك لأمره أقر في صحته لأجنبي اقتفي وما لوارث ففيه اختلفا
ومنفذ له لتهمة نفى ورأس متروك المقر ألزما
وهو به في فلس كالغرما وإن يكن لأجنبي في المرض
غير صديق فهو نافذ الغرض ولصديق أو قريب لا يرث
يبطل ممن بكلالة ورث وقيل بل يمضي بكل حال
وعندما يؤخذ بالإبطال قيل بإطلاق ولابن القاسم
يمضي من الثلث بحكم جازم

[ ص: 77 ] إلخ ، وخلاصته أن المالك لأمره تارة يقر في صحته ، وتارة في مرضه ، وفي كل منهما إما أن يكون المقر له وارثا أو أجنبيا انظر شروح العاصمية

( والقسم الثاني ) ما يجوز الرجوع عنه ، وضابطه ما للمقر عذر عادي في رجوعه عنه ، ومثل له الأصل بثلاث مسائل فقال .

( المسألة الأولى ) إذا أقر الوارث للورثة أن ما تركه أبوه ميراث بينهم على ما عهد في الشريعة ، وما تحمل عليه الديانة ثم جاء شهود أخبروه أن أباه أشهدهم أنه تصدق عليه في صغره بهذه الدار ، وحازها له أو أن والده أقر أنه ملكها عليه بوجه شرعي فإنه يقبل رجوعه عن إقراره ، وأنه كان بناء على العادة ، ومقتضى ظاهر الشريعة ، وعذره بأنه لم يكن عالما بما أخبرته البينة به من أن التركة كلها موروثة إلا هذه الدار المشهود بها له دون الورثة لأنه عذر عادي يسمع مثله فيقيم بينته ، ولا يكون إقراره السابق مكذبا للبينة وقادحا فيها ا هـ .

وسلمه أبو القاسم بن الشاط ، وفي شرح التسولي على العاصمية ما نصه قال أبو العباس الملوي اعتمد ما للقرافي غير واحد من الحفاظ المتأخرين ، وتلقوه بالقبول منهم أبو سالم إبراهيم اليزناسني ا هـ .

وبه يعلم ضعف ما في الحطاب عن سحنون من أن إقراره الأول مكذب للبينة فلا ينتفع بها نقله في بابي الإقرار والقسمة بعد أن نقل عن المازري أنه أفتى بمثل ما للقرافي ، وبالجملة فالمعتمد ما للقرافي ، وبه كنت أفتيت انظر شرحنا للشامل ، ويؤيده ما مر أول الاستحقاق ا هـ .

بلفظه ، وما مر أول الاستحقاق هو ما نقله عن ابن عرفة من أن حكم الاستحقاق الوجوب عند تيسر أسبابه في الربع والعقار بناء على عدم يمين مستحقه ، وعلى يمينه هو مباح كغير العقار والربع لأن الحلف مشقة ا هـ .

قال ومراد ابن عرفة إذا لم تسمح نفسه بذلك لما فيه حينئذ من إطعام الحرام لغيره مع القدرة على منعه منه ، وقد قال عليه السلام { لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه } .

وقال { انصر أخاك وإن ظالما ، ونصره أن تمنعه عن ظلمه } فالمستحق حينئذ آثم بعدم قيامه بالاستحقاق لأنه ترك واجبا عليه فهو راجع إلى تغيير المنكر ، وهو واجب على كل من قدر عليه ، والمستحق من ذلك القبيل ، وهذا عام سواء كان الاستحقاق من ذي الشبهة أو من غاصب لأن المستحق يجب عليه أن يعلم ذا الشبهة بأنه لا ملك له فيه ، وأنه يستحقه منه ، وإن لم تسمح نفسه به ، ويطلعه على بيان ملكه للشيء المستحق ، وإذا لم يعلمه كان قد ترك واجبا عليه آثما بذلك ، وهو معنى وجوب قيامه بالاستحقاق خلافا لما للشيخ الرهوني من أنه لا يظهر وجوبه بالنسبة لذي [ ص: 78 ] الشبهة ا هـ انتهى المراد بلفظه وقال الأصل .

( المسألة الثانية ) في الجواهر إذا قال له علي مائة درهم إن حلف أو إذا حلف أو متى حلف أو حتى يحلف أو مع يمينه أو بعد يمينه فحلف المقر له فنكل المقر ، وقال ما ظننت أنه يحلف لا يلزمه شيء لأن العادة جرت بأن هذا الاشتراط يقتضي عدم اعتقاد لزوم ما أقر له .

وقال ابن عبد الحكم إن قال له علي مائة إن حلف أو دعاها أو مهما حلف بالعتق أو إن استحق ذلك أو إن كان يعلم أنها له أو إن أعارني داره فأعاره أو إن شهد علي بها فلان فشهد عليه بها لا يلزمه في هذا كله شيء لأن العادة جرت على أن هذا ليس بإقراره فإن قال إن حكم بها على فلان فحكم بها عليه لزمته لأن الحكم سبب فيلزمه عند سببها ، والأول كله شروط لا أسباب بل استبعادات محضة مخلة بالإقرار ا هـ .

( المسألة الثالثة ) إذا أقر فقال له عندي مائة من ثمن خمر أو ميتة لم يلزمه شيء لأن الكلام بآخره ، والقاعدة أن كل كلام لا يستقل بنفسه إذا اتصل بكلام مستقل بنفسه صيره غير مستقل بنفسه ، وقوله من ثمن خمر لا يستقل بنفسه فيصير الأول المستقل غير مستقل ، وكذلك الصفة والاستثناء والغاية والشرط ونحوها مما لا يستقل بنفسه ا هـ .

كلام الأصل ، وسلمه أبو القاسم بن الشاط ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

( فائدة ) قال التسولي على العاصمية ، والمراد بالكلالة هنا الفريضة التي لا ، ولد فيها ذكرا أو أنثى ، وإن سفل بأن كان فيها أبوان أو زوجة أو عصبة ، وأما الكلالة في باب الميراث فهي الفريضة التي لا ولد ولا والد ، وفيها يقول القائل :

ويسئلونك عن الكلاله هي انقطاع النسل لا محاله
لا والد يبقى ولا مولود فانقطع الأبناء والجدود

ا هـ بلفظه .




الخدمات العلمية